في سهولٍ جميلة، وعلى سفوح الوطن، المزين بالجماجم، والمرصوف بالعظام، والمزركش بالدماء، والشوارع والحيطان تكسوها الأشلاء، والناس سكارى وما هم بسكارى، عما حصل ويحصل باستمرار من قتل وتدمير وتفخيخ، وتجار الأزمات يغتصبون قوت الشعب المسكين، والفساد مستشري بكل مفاصل الوطن، وحوار الطرشان يدور في جنيف 3، وعلم انتداب فرنسي باللون الأخضر مرفوع على الأكتاف.
على ما يبدو لم يبصر أحدا ذاك القتل الممنهج على ضفاف نهرِ الدماء والدموع، المنساب كشلالٍ متدفق على أحلام المجرمين والقتلة التي لا تفي ولا تذر، يقتلون ويفخخون ويموتون بأمر مَنْ؟؟؟
ولصالح مَنْ يا ترى؟
وماذا يستفيدون بعد موتهم؟؟؟ تبًا لهم ولمن أمرهم بما يفعلون في كل مفاصل الوطن الجريح، ألم يشبعوا من شرب دماء السوريين، ألم يشبعوا من نهب أموال السوريين، ألم يرتاحوا بعد أن جعلوا البحر التوسط مقبرة جماعية لشباب وأطفال ونساء الوطن.
ماذا يريدون من سورية بعدما فتتوا أركانها، هجّروا شبابها، ذبحوا أطفالها دون رأفة، اغتصبوا حرائرها، وباعوها في سوق النخاسة بـ أبخس الأثمان، حتى خرجت مواكب الأرواح من أوكارها تلعنهم ليلا نهارا، وما تبقى في بعض المدن إلا الأشباح، وبعضها الآخر قاوم وانتصر على الموت والحصار، يعصرون بطونهم لأجل الحياة، ويواصلون الصبر لأجل البناء من جديد. ألم يدركوا جميعا أن تلك اللقاءات المارتونية لا تحل شيئا قبل وبعد جنيف، ولا تسمن ولا تغني من جوع، كل يغني على ليلاه، وكل يسعى لمصالحه الشخصية، معارضة بل معارضات تسير بركب الغرب والشرق، ولا تتنفس إلا بإذنه، ولا تأكل ولا تشرب إلا بأمر الحاكم بالله، ولا تنبس ببنت شفة إلا بعد أن يُصرّح لها بعدد الحروف التي تنطقها، أو تبوح فيها، آتية كالطاووس المنفوش ريشه، من فنادق العشر نجوم متخمةَ البطون، بالسمك والكافيار، حاملة في جعبتها بعضًا من حلم المستحيل، مختلفة الأقوال، متلعثمة في الطرح، سفنها لا تعرف كيف ترسو على بر الأمان، تحاول مرارًا لتستمد الموافقة على دخول الإرهابيين بينها، فهل يُصرّح لهم يا ترى أن يدخلوا من بوابات مطار جنيف هؤلاء القتلة ولأول مرة.
هل مدينة جنيف السويسرية يا ترى ستفتح أبوابها أمام حثالاتٍ عفنة قتلت ودمرت واغتصبت وعملت الموبقات السبعة؟ هل المدينة الرومانسية الحالمة والواقعة غرب سويسرا، والتي تُعد من أجمل مدن أوربا، يقصدها العديد من السياح من مختلف بقاع العالم للاسترخاء فيها، ومشاهدتها والتنزه في حدائقها الخلابة، تستقبل مصاصي الدماء وآكلي الأكباد؟؟؟ وهل مدينة السلام ستبسط يديها لجميع أنواع المعارضات، وتبتسم في وجوههم الجميلة، وتقدم لهم كل أنواع الشكولاتة فرحا وابتهاجا بقدومهم الكريم؟
عدت للماضي البعيد قليلا وأنا أذكر ما علمني إياه والدي رحمه الله أن الثوار لهم مكانة مرموقة عند الشعب أيام الاحتلال الفرنسي، ولهم من الاحترام والإجلال الكثير، كونهم من الشعب وإلى الشعب، قاوموا على أرض سورية بمساعدة الشعب، وليس من خارجها، وكانت الجبال والبوادي ملاذهم الآمن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وليس فنادق العشر نجوم، الحرير ملبسهم، وأطايب الطعام تنتظرهم، والشعب السوري يعاني الأمرين بلا ماءٍ ولا كهرباء.
الثوار الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي أشهر من نارٍ على علم، مهما تكلمت عنهم لن أفيَهم حقهم، لِما قدموا من تضحيات في سبيل الحرية والاستقلال، كانوا رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حين تحركت ثورتهم من كل المناطق والمدن السورية بقياده عدد كبير من القادة السوريين، بدء من جبل العرب وحوران بقيادة القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش الذي عُرف بالوطنية والشجاعة وقد لجأ المجاهد سلطان الاطرش مع عدد من قادة الثورة بذكائهم وحنكتهم، إلى نقل قيادة الثورة من المدن والقرى إلى البادية لتكون بعيدة عن متناول القوات الفرنسية ومخابراتها، بينما المعارضات أدخلت مجرمي الثورة لقلب المدن لاغتيالها، والسعي الحثيث لتقسيم سورية الياسمين. ومن حلب إبراهيم هنانو، الذي جمع أثاث بيته وأحرقه، وقال قولته المشهورة: لا أريد أثاثاً في بلد مستعمَر، وكان هذا الحدث شرارة لانطلاق الصِّدام المسلح بين الثوار والقوات الفرنسية الغاشمة، حيث استمر القتال لساعات طويلة، مما دفع فرق المجاهدين بقيادة هنانو، لإزعاج الفرنسيين محققة نجاحات ضخمة، فذاع صيت هنانو وكثر المنضمون إليه. ولعل جموح الخيال الشعبي كان متجاوباً مع عنفوان ثورة هنانو والتي كانت ضرباً من المستحيل أو الجنون في ظل اليأس المطبق من إمكان مقاومة القهر والظلم والذل الذي حكمت به فرنسا البلاد حين بدأ الشعب يردد "طيارة طارت بالليْل فيها عسكر فيها خيْل فيها ابراهيم هنانو راكب على حصانو" كلمات لأغنية شعبية مازالت منتشرة إلى الآن امتزج فيها الخيال الشعبي بين الحلم وتحقيق الأمنية. ومن حماة سعيد العاص، المقاوم العربي السوري كان من كبار قادة الثورة العربية الكبرى التحق بثورة الشيخ صالح العلي في جبال العلويين وبعدها بثورة إبراهيم هنانو في أقضية حلب ضد العدوان الفرنسي، وأبلى بلاء حسنا.
ومن دمشق حسن الخراط، وأحد أهم قادة الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي على سوريا، وأحد أكثر قادة ثوار دمشق وريف الغوطة العسكريين شهرةً. انضمّ الخراط للثورة وشكّل مجموعة مسلّحة من مقاتلي "حيّ الشاغور" ومختلف الأحياء والقُرَى المجَاورة.
ومن اللاذقية انطلق الشيخ صالح العلي، الذي وضع تحت الاقامة الجبرية عندما رفض عرض الفرنسيين بإقامة الدولة العلوية، وتعرض أثناء المعارك وبعدها لعدة محاولات قتل وتسميم بالقهوة وبالطعام وبإطلاق الرصاص عليه عن طريق متطوعين مزيفين في المقاومة، وهناك عدد كبير من الابطال والمجاهدين من مختلف مناطق سوريا اشتركت بالثورة السورية الكبرى مع كافة فصائل الشعب السوري.
واليوم شام الياسمين عيونها تذرف دما بدل الدموع تستصرخ حسن الخراط، وحلب الشهباء عطشى القلب والروح، تنادي ابراهيم هنانو غارقة في ظلام دامس، ظلام ما بعده ظلام إكراما لعيون المعارضات الكحيلة التي تفاوض على رأس وفد هبط من السماء السابعة لإنقاذ الشعب السوري، وأرسلوا مع أصدقائهم الثوار هدايا العيد للأطفال، رصاصًا وبندقية ورائحة البارود، وكما هائلا من مختلف بقاع العالم تحت مسميات غريبة لا تمت للواقع ولا للعقل السوري بصلة، حاملين معهم السم الزغاف مدمّجين بسياراتٍ مفخخة، لتنثر الدماء هنا وهناك وتحرق البشر والحجر والشجر وهم في أبراجهم العاجية يتداولون حوار الطرشان في جنيف 3.