تنفس الصبح عن اندلاع حريق ضخم التهم سوقا قديما في الشام، وقضى على إرثٍ حضاريٍ معماري جميل يعود لآلاف السنين، ومكان عتيق يقع وسط الأماكن الأثرية والتاريخية، يجذب السياح ممن يقصدون دمشق القديمة إلى المرور عبر أزقته الجميلة المزركشة بعبق التاريخ، ويفوح منه عطر الحرائر لأن سوق العصرونية يخصهنَّ وحدهن، منذ أن تأسست تلك السوق تشهد ازدحاما شديدا في فترة العصر من النهار حين تخرج النساء الدمشقيات للتسوق فيها بعد انتهاء أعمالهن المنزلية، فيشترين من محلاتها مستلزمات مطابخهن وغيرها، وبالتالي أطلق عليها "العصرونية" اشتقاقا من فترة "العصر".
"العصرونية" لها مكانة عند القاصي والداني، وسوق الأنس والأنوثة، وتاريخ طويل حافل بالزيارات المكوكية، وذكرياتٌ لا تُنسى استوطنت على جسد الذاكرة، كانت تقودنا إليه سيدة فاضلة مع صديقة الدراسة والمحبة ماريا يعقوب، وكنا نلتزم بأوامرها ذاك احترام الصغير للكبير، لم يكن همنا آنذاك التسوق من العصرونية بقدر ما يهمنا كطلاب في كلية الفنون الجميلة التزود بالجمال والإرث التاريخي، حيث تنفتح السوق من الجنوب على سوق الحميدية، ومن الشمال كان امتدادا لشارع الكلاسة وسوق المناخلية، أما قلعة دمشق كان الغرب محتواها، ونستريح شرقا في الجامع الأموي لنؤدي بعض الصلوات والدعاء في محراب المسجد وفي ساحاته الجميلة لنخرج على باب البريد الذي يمتد من الحميدية حتى تقاطع المكتبة الظاهرية، والزائر إلى أي من تلك الأماكن لا بد من أن يمر بسوق العصرونية.
كان صباح يوم السبت الموافق 23.4.2016 مؤلما حد الوجع، النار التهمت حتى الذكريات بمنطقة العصرونية في دمشق القديمة، وقضت على عشرات المحال التجارية، التي رسمت أجمل قصيدة لعمرنا، وسرقت الصِّبا والصَّبا الذي كان موجودا بين أنحاء العصرونية، حين تمر شمس العصر فتلفح وجوهنا لأن تلك السوق لم تكن مسقوفة بالتوتياء أو الأقواس الحجرية بل كانت مكشوفة بخلاف أسواق دمشق التاريخية مثل الحميدية والسروجية، عمره امتد لأكثر من مائة وخمسين عاما، مواجها للجدار الشرقي لقلعة دمشق الأثرية.
الحريق بعد أن طال أكثر من خمسين محلا تجاريا، طال الذكريات حيث كان متخصصا بصوت الأدوات النحاسية تعزف ألحانها، مازالت سمفونيتها ترنُّ في أذني تعيد لي الزمن الجميل الذي كان يجمع الشعب السوري في بوتقة واحدة في عشق الوطن، بغض النظر عن طائفته أودينه أو مذهبه أو انتمائه، أما الأدوات الزجاجية كنت أبصر منها شفافية الروح لصديقتي ماريا التي مهما أبعدتنا السنين، تجمعنا تلك الأسواق في حضارتها ونقوشها، وللأراكيل حكاية الجمال حين يكركر الماء في بطنها لتطلق أبخرتها تشق عنان السماء، وتستريح قطع الفحم على رؤوسها، ممشوقة شفافة تعتلي الزخارف صدرها وبطنها، والمبسم بلون خدها الوردي. في السادسة صباحا اشتعل حريق اللهب، وسرق أجمل اللعب، وخطف رائحة الحرائر، ولم يبقِ ولم يذر.
كأن الشام على موعد مع الحرائق منذ أن دخلها أول مستعمر لكنها صامدة بوجه كلّ معتد زنيم، بوجه كلّ أفّاك أثيم، ولن تحني لأحد.
حرائق اللهب امتدت من الشام إلى حلب، لم يمض سويعات حتى كانت الشهباء على موعد مع القصف والقتل من جديد، جاءتها الصواريخ ومدافع الهاون، للأحياء السكنية من الناحية الغربية لمدينة حلب، وسال الدم الحلبي بشرا وحجرا وشجرا، في صباح يوم 24.4.2016 لم يشبعوا قتلا في حلب، لم يشبعوا تدميرا لمدينة حلب، لم ينتهوا من النهش في حلب، هاجرت النوارس، وماتت الطيور، وارتعشت الحمائم في أعشاشها، وتعرّتِ الأغصان من أوراقها، وصمتت موسيقى الجمال، حين علا صوت الحرب على صوت الحب فيك يا حلب.
كيف نعيد الجمال لحجارتها البيضاء التي صبغتها الحرب بدخانها الرمادي والملون بسواد قلوبهم؟
كيف نعيد للحدائق رونقها بعدما لوثتها يد الحرب وعاثت فيها فسادا؟ كيف نجفف دموع العذارى؟ ونبلسم جراح الثكالى؟
بعدما بكت الأحلام على كتف الزمن المر، وارتعدت مفاصل الحارات، وغابت ملامح الشوارع، ودُفنت المدن تحت الأنقاض، ورحلت الذكريات على عتبات المستحيل، وتشرّد أهلها على أرصفة المنافي، وتحت عيون الأعمدة، وأطفالها رقيق أبيض في ساحات بشعة تحت التعذيب والاغتصاب، وفتياتها للوحوش البشرية كي يفترسن بشهوة الجنس الجسد الغض الجميل.
ويدور الحديث، وتشتعل التساؤلات من كل حدب وصوب لِمَ هذا الصمت المطبق على مدينة حلب؟ لِمَ هذا القتل الممنهج لمدينة حلب؟ لِمَ هذا الخنوع الذي عمَّ الوجود؟ من المسؤول عن حرائق اللهب في حلب؟ هل مات الضمير الإنساني؟ أم تهاوى في الفساد؟ هل ماتت النخوة؟ أم ضاعت الكرامة أمام تجار الحروب والخونة والنصابين الذين أصبحوا يتاجرون بقوت الشعب اليومي، وبجسده؟ انتهى الشرف والدفاع عن حلب، عن الأطفال والنساء والشيوخ؟ جفت الحلوق، ودمعت العيون، وغاب الضمير الإنساني، بعد أن تدثرت حلب بثوب الدمار، وارتوت أرضها بدماء الشهداء، وأصبحت الحجارة مخدة الأطفال، بعد أن سرقت الأرض العظام.
حلب تنزف بصمت، وتُقتل بصمت، وتعاني بصمت، وتحترق بصمت وما من أحد ينبس ببنت شفة، إعلامنا أصمٌّ أبكم، يحتفل بالصباحات الجميلة، وينتهي بالمساءات العطرة، إلا من رحم ربي من بعض المراسلين الشرفاء الذين يحملون أكفانهم على أكتافهم لنقل الحقيقة المرة ولا أحد يتحرك.
لم يبقَ شيء في حلب غير الذكريات المهترئة، والأطلال التي تدلُّ على أناس قد مروا من هنا، وقلب نوافذ مائلة كانت مفتوحة للحب، واقتلعتها الحرب، لم يبق في حلب إلا بضع أجساد مفتتة تحت الأنقاض، وأكمام مقطوعة معلقة على الحبال، وبقايا قراطيس مبعثرة لأطفال كانت محمولة في الحقائب، ورسوم وألوان تعبر عن جرائم المغول والتتر، وتحكي قصص الرعاع الذين اغتصبوا وقطعوا الرؤوس ومزقوا الأبدان، ودمى مبتورة الأرجل، لأن الحرب القذرة طالت كل شيء.
فمن المسؤول يا ترى عن حرائق اللهب من الشام إلى حلب؟