منذ أن خرج القمر من ظل الشمس أدركنا هلال الشهر الكريم، وانعكس ضوؤها على الجزء الخارج من القمر، كان نقيا ساطعا يبرق في كبد السماء نظرا لحدوث الاقتران بعد المحاق مباشرة، وهلَّ معه مارتون المسلسلات السورية بجميع أشكالها وألوانها وما تحتويه من غثٍ وثمين.
مررتُ مرور الكرام على بعضها، كي أقلبَ بعضا من قراطيسها علني أجد شخصية واحدة هذا العام تتكلم عن سيدة قدمت لوطن الياسمين العلم والمعرفة، ناضلت ضد الظلم والطغيان والقتل والتشرذم، وحملت لواء السلام.
هل انقرضن نساء الشام الحقيقيات، سيدات العلم والمعرفة؟ هل اختفين نساء الصالونات الأدبية، أم تغيّبت أسماءهن تحت عنوان "السوق يريد ذلك" ولو على حساب الأخلاق والنقاء والعلم والمعرفة، نجاري السوق ونهدم القيم الإنسانية، وفي تاريخنا الماضي والحاضر العديد من النساء السوريات اللواتي تركن بصمة في سجلات التاريخ القديم والحديث، ومنهن من حصلت على لقبها من الشعب لا من السلطان.
أجل إنها "الأميرة ست الشام زمردة بنت نجم الدين أبي الشكر أيوب بن شاذي بن مروان" أم الفقراء وراعية العلم والعلماء، وأخت الملوك وعمتهم وزوجة الملك ناصر الدين محمد بن شيركوه بن أيوب.
السيدة "زمردة خاتون" التي ولدت في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، وعاشت أجواء النضال ضد الصليبيين، وبينما كان الأمراء من بني أيوب يحملون السلاح دفاعاً عن حياض الوطن كانت السيدة زمردة تقوم بدور اجتماعي وتعليمي لا يقل أهمية عن الأدوار النضالية.
كانت سيدة ملكات عصرها بالعلم والمعرفة والدراية، لم تكن جارية كما صورتها إحدى المسلسلات في البيئة الشامية، أو في مسلسلات أخرى تُباع في سوق النخاسة تُجرُّ بسلاسل الحديد، بل كانت "زمردة خاتون" توزع الصدقة من دارها على الفقراء والمحتاجين لإصلاح حالهم، ولم تتاجر بأرواح الناس وأجسادهم ببيع المخدرات التي استعرضتها إحدى القنوات بابتذال، وكان بابها مفتوحا وملجأ لكل قاصد ممن عجزت الدولة عن إعانتهم، ولم تسلمهم سلاحا ليقاتلوا الدولة.
وقد ذكرها أبو شامة في كتابه "ذيل الروضتين" "أنها كانت "سيدة الخواتين" عاقلة كثيرة البر والإحسان والصدقات، وكان يُصنّع في دارها من الأشربة والمعاجين والعقاقير في كل سنة بألوف الدنانير" كونها اهتمت بصناعة الأدوية والعقاقير نظرا لوجود دارها أمام "البيمارستان النوري" ذاك المستشفى الشهير الذي شيده نور الدين محمود زنكي بدمشق ليقدم خدماته الطبية بالمجان للغني والفقير على حد سواء، ولم تفتحها "زمردة خاتون" لصناعة المخدرات، أو تبيع من دارها المخدرات بل كرَّست جزءً من جهودها الخيرية لمعاونة وظيفة "البيمارستان" بإعداد الأدوية والعقاقير، ليس فقط للمرضى المقيمين به، بل للذين يترددون للعلاج فيما يعرف اليوم بالعيادات الخارجية.
لم يُهدم "البيمارستان النوري" لأغراض شخصية أو لإسقاط العروش كما حدث في وطن الياسمين بل كان الشعب يدا واحدة لاقتلاع الصليبيين، لم يُحرق ويُقتل ما فيه لتنفيذ أغراض الصهيوأمريكية، بل لعلاج الناس، ولم يُقتل منه الأطفال لإرضاء نزوات أصحاب المعالي والكراسي، وشهوة السلطة والمال، لتُباع أعضاءهم للسلطان العثماني.
لم تقف السيدة "زمردة خاتون" عند صناعة الأدوية بل سارت على درب أخيها السلطان الناصر صلاح الدين الذي رعى إنشاء المدارس الشافعية بمصر منذ كان وزيراً للعاضد آخر خلفاء الفاطميين، فعهدت إلى "شبل الدولة كافور الحسامي" الذي كان يتولى خدمتها وخدمة ولدها حسام الدين محمد بن عمر لاشين ببناء مدرسة للشافعية بمحلة العوينة قرب دمشق، وعرفت هذه المدرسة بالمدرسة الشامية "البرانية" لوقوعها خارج أسوار دمشق وكانت من أكبر المدارس وأعظمها وأكثرها فقهاء، وأكبرها أوقافاً، وظلت وظائف التدريس قائمة فيها حتى بداية القرن العشرين، حيث كانت بها مدرسة ابتدائية للأيتام تابعة لجمعية الإسعاف الخيرية، وطوال ستة قرون عملت على تخريج الفقهاء الشافعيين والعلماء.
إنها السيدة "زمردة خاتون" ناضلت من أجل نشر العلم والمعرفة ولم تدع أحدا يقف بوجهها رغم أنها من الثاني عشر الميلادي ونحن اليوم في القرن الواحد والعشرين الميلادي ننشر للعالم جوارينا عبر الدراما السورية، نصور إما المرأة الشامية الخانعة، أو المرأة اللاهية العابثة، أو الجريئة التي تتاجر بالمخدرات لقتل شباب الوطن، وتعليم العنتريات، تحت مسميات عدة، أو المرأة الجارية التي تُجر كما الحباب، وحارات تقتل حارات، وحقد مسموم بين أبنائها، وزعامة بلا أخلاق، والورقة الرابحة لمن يجلس على كرسي العرش المطعم بزخارف الجنان، ليحكم بأمر الله، والله براء مما يفعله الظالمون.
كانت ست الشام الجندي المجهول الذي قام على إعمار المدارس والاهتمام بالأدب والأدباء ولعل أفضل ما تركته بناء مدرستين كبيرتين هما المدرسة الشامية الجوانية والمدرسة الشامية البرانية وجلبت لهما أحسن المدرسين وجعلتها للفقهاء والمتفقهين من أصحاب الإمام الشافعي فكانت بمثابة جامعة من جامعات ذلك العصر.
أين سيدات الشام الأوائل، أين المرأة الشامية في الدراما السورية التي ناضلت بكل العصور من أجل العلم والمعرفة وتبوأت أعلى المراتب؟
أين المرأة الشامية في الدراما السورية التي ناضلت ضد الأتراك والفرنسين وسجلت أروع البطولات أمثال ماري عجمي ابنة دمشق، وسيدة الصحافة العربية التي وُلدت في الرابع عشر من مايو عام 1888م، وكان والدها عبده أحد أعضاء المجلس العملَي الأرثوذوكسي ووكيل الكنيسة الكاتدرائية "المريمية" بدمشق.
أين المرأة السورية أمثال ماريانا مرّاش سليلة العلم والأدب التي ولدت عام 1848م وتوفيت عام م1919، وعُرفت بصالونها الأدبي والذي كان أول صالون من نوعه في الشرق العربي بمفهومه الحديث، ورغم اختناق الحياة الاجتماعية أيام الحكم العثماني إلا أن صالونها ذاك سبقت به كلاً من الأميرة فاطمة إسماعيل، وهدى شعراوي، ومي زيادة، وكان لهذا الصالون ولصاحبته الأثر الفريد في الإطار الثقافي العام، فهي أول شاعرة عرفتها مدينة حلب، وأخت العالم والطبيب والشاعر "فرنسيس مرّاش".
أين المرأة السورية أمثال سنيية صالح الكاتبة والشاعرة والقاصة السورية، زوجة المفكر والأديب السوري محمد الماغوط ولدت في مصياف "حماه" عام م1935 وتوفيت عام 1985م، وقد كانت من رائدات الشعر والقصة فازت بجائزة جريدة "النهار" لأحسن قصيدة حديثة عام 1961م كما فازت بجائزة مجلة "حواء" للقصة القصيرة عام 1964م.
أين هؤلاء السيدات لماذا غيبتهم الدراما السورية أم "السوق يريد ذلك" لقتل الوعي الثقافي والمعرفي وتدمير القيم الإنسانية في المجتمع السوري وحرق الوطن عن بكرة أبيه.
أين هؤلاء النسوة وأين دورهن ـ سيدات العلم والمعرفة ـ لإعادة الوعي في المجتمع السوري؟