بين الفرح والحزن مسافات قهر وألم، وامتداد لوجع أصبح خبزنا اليومي، بل مداد حياتنا، كلما ارتعش الخوف في رصيد عمرنا المتبقي لحياة عامرة بأزيز الرصاص ورائحة البارود، وأصوات القنابل التي تدك أرواحنا حين تلاشي صدى صوتها في الفضاء.
طار انتظاري في مطار الملك عبد العزيز بمدينة جدة بتاريخ 21.6.2016 ريثما يحين موعد الاقلاع، لكن طائرة الياسمين لم تصل بعد!!! على متن أي طائرة سنصعد يا ترى؟؟؟
أسئلة محمومة انتابتني بالانتظار حين فُتحت البوابة كانت مقلدة بشعار الشرق الأوسط، أي مصير ينتظرنا هناك الحزن أم الفرح؟؟؟ أم هي رحلة على متن الشوك.
كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر والشوق ظهرا حين أعلن كابتن الطائرة الاقلاع من مطار الملك عبد العزيز في جدة، دبّت في مفاصلي حرارة البراكين، وانشّق جيب قلبي لاحتضان وطن كان ومازال تحفه المفاوضات البوهيمية، وكيفية اقتسام الكعكة الجميلة فهل يستطيعونتفتيته وتشويه وجه الحسناء الجميلة أيقونة المدن دمشق، لا أعتقد ذلك!!! مهما فعلوا لنيمروا وإن بلغت الأثمان ما بين السماء والأرض.
أعلن كابتن الطائرة الهبوط في مطار رفيق الحريري إنها بيروت ست الدنيا لكن ليست أيقونة العواصم دمشق، إنها بيروت وليست داماس، أُصبتُ بصدمة التوحد، حين دخلت بوابة المطار لم يكن مطار دمشق الدولي تحفه رائحة الياسمين، وكانت الصدمة أكبر حين كان السائق القادم من سورية ُبانتظاري.
لمَ كُتب علينا التشرد في مطارات العالم؟؟؟ لِمَ سُطِر على حياتنا الشقاء بحرب قذرة لا مثيل لها، حقا نحن نعيش حرب عالمية ثالثة من نوع آخر، تشريد وتهجير وتجويع لشعب أبيّ مازال يرفض الظلم والخنوع ولو قُطعت الرقاب لن تنحني الرؤوس إلا لله الواحد الأحد.
كانت الطريق بين بيروت ودمشق مختلفة تماما، شتان بين الأمس واليوم، شتان بين ماضٍ جميل يحمل بين طياته ذكريات طفولة وشباب ودراسة، وبين حاضر يعجُّ بالقهر والوجع وكأنني أراه لأول مرة بهذا القبح.
أين جبال لبنان الخضراء التي كانت تستقبلنا بابتسامتها الحبلى، فنرتدي جمالها، كانت رائحة الحبق تزكم أنوفنا، والزعتر البري يتناثر عبقه مع نسمات عليلة، والدحنون يفتح شفاهه لقبلة حنون، كله اختفى لنشم رائحة العفن تتناثر هنا وهناك، والذباب يطاردنا على الحدود، لكنه ليس فيلم الحدود للفنان القدير "دريد لحام" الذي أصرَّ أن يمر ويلغي الحدود.
أنهينا المعاملات في الأمن العام اللبناني بعد أن ترجّل جلالته ورشّنا مع الذباب برذاذ البخور والمسك وعطر السارين، فتقاطر على وجوهنا كشلال من ذاك العطر المقزز والذي دخل الرئتين استعداد لانسلال الروح من الجسد.
بعد ساعتين من القهر في الحدوداللبنانية قطعنا جميع العقبات، بدأت تهب نسائم الياسمين لتنعش الروح،لكن الجسد كان قد تشوه من رذاذ "الريد" والروح حاولت قدر الإمكان نسيان ما حصل لتنعم بعبق الياسمين، التي عهدتها قبل عقود ونيّف.
عادت الذاكرة طويلا للوراء لتقنع العين بأن الشام لن ولم تتغير، لكن هناك شيء ما تغير بالدروب العتيقة، والوجوه التي كانت تنبض حياء واستحياء، والقلوب النقية مثل زهر الياسمين العامرة بالمحبة، استكانت على وقع القذائف، وصار النسيم محمّل برائحة البارود، والصبية مازالت منتظرة على كتف الشارع كي تلتقي بمن زرع في قلبها لأول مرة كلمة حب، لكن حرف الراء شطرت قلب الحب واستحال الفرح حزنا، وغادرت عصافير الدوري أعشاشها، وذرف شجر الحور دموعه على فراق أحبابه بعدما كان يسمع حديث العشاق حين ترنّق شمس الأصيل للمغيب، ويتبادل العاشقان حديث الحياة التي تورق على شفاهما، كل العهود انطفأ بريقها بحلول سطوة الحرب القذرة.
- أين الشام التي عهدتها ناطقة بالفرح، يفوح الياسمين من جدائلها الجميلة؟؟؟
- أين ضحكتها التي تغزل الحب للعشاق حين تغرّد الطيور وينفقع الندى على شفاه الورد؟؟؟
- أين صبايا الشام المتعطرات بعطر محلي، يفاخر عطور العالم كله حين يتبخترن على طريق الجامعة بلباس أنيق من صنع محلي فاق الصناعات الأوربية؟؟؟
- أين الحجّات اللواتي كنَّ يحمصّنَ الفول السوداني ليسد رمق جوعنا أيام الدراسة أمام جامعة دمشق على طريق البرامكة؟؟
- أين أشجار الحور التي كنّا نستظل بظلها في شارع بغداد سرقتها أدوات الحضارة ليأتي الصيف حاملا قيظ سنين خلت؟؟؟
- أين التجمعات الشبابية عند نورة حاملين البراءة بين أرواحهم؟؟
- أين ابتسامة أبو رمانة والمالكي كما عهدتها منذ زمن بعيد؟؟؟
- أين عطر القصاع وباب توما ورائحة المناقيش التي استوطنت في رئتينا والابتسامة سكنت في أحداقنا؟؟؟
- أين أجراس الكنائس تُقرع حين كانت على قيد الفرح الدائم؟؟؟
- أين كنيسة فاطمة التي ترتدي الحياة كل يوم أحد وتتدثر بالجمال؟؟؟
- أين صوت المآذن توحد بعذب الأذان وترتل للديّان؟؟؟
غادرت دمشق صباح الجمعة 24.6.2016كانت رائحة الحرب تفوح من الطريق لأصل مسقط رأسي حماة حالمة برؤية نهر العاصي الجميل واستراحة على ضفافه حيث رائحة الصفصاف وأغصانه المتدلية ليحضن مياه النهر التي لوثتها تارة ريح الحضارة، وتارة رائحة الحرب، بعدما كانت تروي العطشى في الأيام الماضية، وتلملم عشاق الحياة على أنين ناعور جميل كان يئن على مياه صافية، حولتها الحرب إلى مياه آسنة، فحزن الناعور وصمت أغلبه صمت مقيت لأن الماء الشحيحة لا تستطيع أن تحمل ثقل ناعور عاش في قلبه حكايات العاشقين.
وصمتت مع بعض الناعور لأعود بالذاكرة إلى تلك السفوح الجبلية،من يسوقني إليها كي أرى احتضانها لشجر السنديان المختلف في العمر، والمتجذر في الأرض كان يستقبل آلاف الطيور صباح مساء على امتداد مساحة واسعة من الفضاء الكائن ويغزل عطر الحبق والمردكوشو يهديه للزائرين، أشجار السنديان التي أرست جذورها بينالهضاب الصخرية الوحشية،لتبقى تمارس وجودها منذ ملايين السنين، وتقول أنا هنا لن أهاجر ولن أغيّر وطني، لأن الزمان تهّيب من حضوري، أين رحلاتنا الجميلة إلى تلك السفوح والجبال العامرة بالحب والمحبة؟؟؟؟ لكن صهيل الحرب وهسيس النار أخمدت كل الجمال من النفوس.
على ما يبدو كل هذا بقي في الذاكرة القديمة حين استقبلتني موجة من حرارة الصيف تشوي الجسد، وتلسع الروح، ووجوه تحمل عذابات ست سنوات مرت، من ألم وجوع وتشريد وتهجير، ست سنوات والكل يبحث عن مصيره في قيظ الصيف الحارق، وفي برد الشتاء القارس، والبعض يبحث عن لقمة عيشه بين ملايين البشر عله يسد غائلة الجوع لأطفاله الذين ينتظرون لقمة مساء في فمهم، وبين غمضة عين يحلمون بحبة فاكهة لذيذة من التين والعنب والخوخ ينظرون إليها في دكاكين الباعة الذين استشرى الجشع في قلوبهم، أو بكوز ذرة يلمع لونه مثل الذهب.
أطفالٌ رماها القدر بين براثن المافيا، تطعمها لسعا في الصباح، وحرقا بأسياخ الحديد في الليل، وما نجا من تلك الأطفال من زوجة أب متخلفة تلقفته يدٌ أبشع تحت عنوان التأديب كلما تحركت الطفلة بين يديها كان الضرب هديتها لتذرف تلك العينين الزرقاوين دموع الوجع الذي شق قلبي ولم أستطع إلى رفعه سبيلا.
لكن حين رأيت الخبز الملوث بلون القذائف أخذتني الذاكرة التي ما زالت على قيد العمل إلى تنور حارتنا القديمة ورائحته الجميلة، ولونه الذهبي، وسرحت مع شجرة الياسمين التي زرعتها أمي بكلتا يديها، ودالية العنب التي هذبها أخي لتمنحنا ورقا جميلا أخضر اللون، وطعم عنب لا مثيل له، ونحل كان يحوم حولها ليغازل عنقود عنب متدلي بطعم لذيذ، وعصفور دوري تخبأ بين ورد جوري تبرق عيناه فرحا بندى الصباح، وأنا أرتشف قهوة الصباح من فنجان كانت قد حضّرتها أمي الحنون شفاها الله....وللرحلة بقية على متن الشوك.