عندما ينتصف الليل، تنمو رهبة السكون، ويطلع القمر كل يوم في حال، حسب أطواره المتغيرة، والمتبدلة طيلة أيام الشهر الهجري، فيأخذني إلى بلادي كي أطالع جمالها، وأيقونة شامها التي ما فتئت تحمل في قلبها حكايات إنسانية تعجُّ بالثقافة والأدب والفكر التنويري لحرائرها التي أنجبت رجالات وطنية، ومازال رحمها مليء بأجنة الثمر.
قادت حرائرها معارك تنويرية مع الاحتلال العثماني، ومن ثم مع الاستعمار الفرنسي، ومازالت تقود تلك المرأة الشامخة بفكرها المشع أولادها على حب الوطن من الإيمان.
حرائر الشام إن هدأت ملامحها تتكلم بعينيها، وإن صمت جسدها يظل قلبها نابض بالحرية وقول الحق لا يثني عزيمتها محتل، ولا يقف بوجهها مستعمر دخيل، صوتها من بردى، وجسدها من أرض خصبة أثمر الخير إلى يوم القيامة، شامخ مثل شجر الحور، أخضر مثل شجر الياسمين يملأ نقاءها ما بين السموات والأرض، وفكرها يفوح بالحضارات الإنسانية هذا ما عرضه المخرج المبدع باسل الخطيب في المسلسل السوري "حرائر" للكاتبة عنود الخالد بدء من شارته التي صدحت بصوتها الحنون ميادة بسيليس والتي تسرح بنا عبر بوابات الشام وشموخ حرائرها، وحلب توأمتها حين تبتسم حجارتها في دراما سورية رائعة تدور أحداثها في الفترة ما بين 1915م 1920م حيث يسلط الضوء على واقع النساء السوريات في تلك الحقبة الزمنية، من تاريخ سورية المعاصر.
هل أزهر الدوح ملئ الغوطتين شذىً....
أم ذاك عطرك فوق الجيد ينسكبُ
وذلك اللحن هل أصدقاء ضحكتها...
فما القدود إذا ما أنشدت حلبُ
كأنك الشام أنت الآن توأمها...
فمنكما العشق والأحلام واللّعبُ
بوجهك الغض شيء من حجارتها...
في الحجارة من ضحكاتك طربُ
وأنت والشام حلمٌ للمحبين يدًا....
وللغزاة إذا ما استخبروا لهبُ
هنّ الحرائر لو أسرى الزمان فما ...
ذلّت لهنَّ جباهٌ أو بكت هدبُ.
وقد سلّط المسلسل الضوء على شخصيات نسائية مهمة في تلك الحقبة والتي ناضلت لتعليم المرأة وتنويرها، والسعي للحرية ومحاربة العادات والتقاليد التي خلفها الاحتلال العثماني، على مدى أربعة قرون، وحاول غرسها في نفوس أهل الشام ليبقى الجهل مسيطرا عليهم.
فحضرت الأديبة ماري عجمي بفكرها التنويري، وسحر بلاغتها، لتزيح اللثام بصالونها الأدبي عن حقبة سوداء أمام المرأة السورية، هي والناشطة الاجتماعية والكاتبة نازك العابد، مع بعض الشخصيات المميزة لإثراء العمل الدرامي في شخصية المرأة السورية المناضلة، رغم الفقر واليتم والترّمل إلا أنها شخصية "بسيمة" بدورِ الفنانة المبدعة سلاف فواخرجي رفعت الصوت عاليا رافضة الخنوع لمجتمع ذكوري في تلك الحقبة، والعمل الجاد لتصبح سيدة قوية من سيدات المجتمع الشامي حين تملكت زمام الأمور بانضمامها إلى صفوف الجيش للدفاع عن الشام.
تحدث العمل عن الحالة التنويرية التي سعت إليها سيدات المجتمع الشامي، من تاريخ حضاري عريق أبى إلا أن يستعرض ملامح تلك الفترة ليرينا أن الشام كانت وما زالت منارة حضارية للقاصي والداني، بشموخ نسائها اللواتي أبينَّ الذل والخنوع لعادات وتقاليد بالية، أظهرها العمل الدرامي بأسلوب رائع مغايرا لما يُعرض في الدراما البيئية التي تنطوي على صورة نمطية للمجتمع الشرقي، يصور الرجل بطلا مغوارا والمرأة تابعة، حين قدم كل شخصية نسائية بفكرها التنويري وبثقافتها الملآى بسنابل القمح والتي روت بها مجتمعات العالم.
إنهنّ حرائر الشام اللواتي تعلَمن رغم وجود الاحتلال العثماني، وتركن بصمة حضارية في سماء الإبداع الثقافي واستطعن أن ينورنّ فكر سيدات المجتمع الشامي، برفضهن لكل أنواع السيطرة الذكورية.
إنها الشام استقبلت في العصر الحديث عدداً كبيراً من الأديبات اللواتي ولدن على أرضها إما لأُسر شامية، أو لأُسر قَدِمت إلى الشام من بلدان أخرى أو من محافظات، وكان لهنّ إسهاما كبيرا في المشهد الثقافي الحضاري، كما أسهمن في الحياة التعليمية والثقافية وقدمن أدوارًا متنوعة في مراحل مختلفة من التاريخ الحديث لهذه المدينة العظيمة.
ماري عجمي التي عاشت بين فترتي (1888-1965) بنت عبده بن يوسف عجمي أديبة نابغة وشاعرة ولدت ونشأت في دمشق وفيها نشأت، وتلقت علومها الأولى في المدرستين الروسية والايرلندية وتمكنت من اللغتين العربية والإنكليزية.
درست ماري فن التمريض في بيروت ولم تكمله؛ فالتفتت إلى التعليم في المدرسة الروسية وأتاح لها استقرارها أن تراسل عدداً من الصحف والمجلات بما تكتبه، مثل "المقتبس" في دمشق و"المهذب" في زحلة و"الإخاء" في حماة و"الحسناء" و"لسان الحال" في بيروت، وارتبط اسمها باسم مجلة "العروس" التي أصدرتها أول مرة عام 1910-1914م.
ثم استأنفت إصدارها 1918- 1925م وبعدها توقفت نهائياً.
نظمت ماري عجمي الشعر، وحظيت بجائزتين للشعر من الإذاعة البريطانية عامي 1946-1947م وكثر اهتمامها بقضايا اجتماعية مختلفة، وبحب طبيعة دمشق وغوطتها:
دمشقُ إذا غبت عن ناظري
فرسمُك في حسنه الزاهر
إذا فتّح الوردُ في روضتك
وغنّى الهزارُ على دوحتك
يهبُّ نسيمُ الصبا هاتفاً
أما والذي طاب من تربتك
إنه العشق الشامي لكل من وُلد على أرضك يا شام وشرب من ماء نهرك الخالد، وتغنى بدروبك الجميلة، وتعطر بياسمين شجرك الأخضر الجميل، يا أيقونة القداسة، ويا سحر البلاغة، يا صورة لم تنطفئ على مرِّ التاريخ، يا روح الحرائر، يا نسمة الصبح على شفاه وردك الجوري ينطق الحب، ومن ندى فجرك يهطل العشق عندما يسرح على شفاه الياسمين
لذلك أحبَّ المخرج باسل الخطيب أحب تقديم صورة المرأة السورية المناضلة في مسلسله الجميل "حرائر" وكيف عاشت بين حارات الشام، وبين دروبها وتعطرت بياسمين زهرها الفواح، وناضلت للدفاع عنها، وما زالت لتبقى شامخة الشام.
المخرج باسل الخطيب