أعاد المخرج باسل الخطيب في مسلسله الدرامي الرائع "حرائر" إلى الأذهان فترة تاريخية عصيبة في الشام، تناولت الوعي المجتمعي والثقافي والإبداعي الذي قادته المرأة السورية بكل شجاعة دون أن تتوانى عن موقعها كأم ومربية فاضلة، وكاتبة وصحافية في وجه الدولة العثمانية العليّة، وهي تنازع سنواتها الأخيرة بعد أن أرخت الجهل على المجتمع بأكمله، وزرعت في عقول أغلب رجاله على مدى 4 قرون أن العلم محرّم على الإناث وربما أيضا على الذكور، ليبقى المجتمع بكل مكوناته خانع لتلك الدولة البغيضة، وهي تحصد شبابها إلى حرب ليس حربهم بل ليدافعوا عن أسطورتها العليّة في ذاك الوقت.
لكن المخرج باسل الخطيب خرج من عباءة الإبداع، ومن بيت شكل فكره التنويري، وطرح مسلسله المغاير، ليُظهر "حرائر" الشام المبدعات بفكرهن الخلاّق، المميزات بنشاطهن الألق، اللواتي سعين نحو الأفضل، وإن ظهرت على الساحة آنذاك شخصيات مرتبطة ارتباطا كليا بالدولة العثمانية وما خلفته من جهل مقيت أمثال شخصية صبحي المتسلط والذي لعب دوره الفنان المبدع أيمن زيدان، وكيف استطاعت امرأة في عز شبابها أن تقف بوجه ظلمه وتعنته المقيت ـ زوجة أخيه ـ بسيمة، التي خطفت الأضواء بجمال طلعتها البهية المتمثلة بدور الفنانة سلاف فواخرجي حين اعتمدت على نفسها في تحصيل لقمة العيش، فكرت، ونفذت بمساندة سيدات المجتمع الشامي اللواتي كان لهن النصيب الأكبر من العلم والمعرفة والثقافة، فاستطعن أن يدفعن بها لتنمية مهاراتها الابداعية لتكون حاضرة بقوة بالمجتمع، وتمكينها من ذاتها، معتمدة على نفسها بعد وفاة زوجها، والسعي الحثيث لتعليم بناتها بعد أن خطت خطوات نحو العلم والتعلم، وسارت على خطى ماري عجمي الكاتبة المبدعة والصحفية القديرة، مع الناشطة نازك العابد حتى أصبحت بسيمة علامة فارقة رغم تعليمها البسيط واستطاعت الوقوف بوجه الظلم والخنوع.
المخرج باسل الخطيب في "حرائر" قدم عملا تاريخيا بعيدا عن الأعمال المصنّفة "بيئة شامية" مغلوطة، وأعاد الصورة البهية للمرأة السورية التي ناضلت ضد الاحتلال العثماني والفرنسي، وكيف اعتلت ماري عجمي المنابر في سورية ولبنان بمرحلة يأكلها التخلف والجهل فرفعت كل اللاءات بشراسة، ووقفت وجها إلى وجه مع جمال باشا السفاح.
هذا وأنار المخرج باسل الخطيب على حياة ماري عجمي، التي لعبت دورها الفنانة حلا رجب بشخصية بارزة ومميزة من النساء الرائدات في النصف الأول من القرن العشرين متعلمة متقنة للغة الانجليزية والروسية إلى جابن العربية وعملت في المجال الاجتماعي، وأسَست النوادي والجمعيات النسائية كالنادي الأدبي النسائي سنة 1920 في دمشق، وجمعية "نور الفيحاء وناديها"، ومدرسة لبنات الشهداء.
عاشت ماري عجمي في فترة عصيبة من تاريخ الأمة العربية، بعهد الاحتلال العثماني البغيض وما خلفه من ظلم وطغيان، عليها وعلى خطيبها بترو وعلى المجتمع بأكمله، فارتبطت مسيرتها النضالية والكفاحية بالحب من حبيبها المناضل الشهيد (باترو باولو)، وتواعدا على الزواج بما كانا يجمعهما من أفكار واحدة لمحاربة الظلم والاستبداد التركي، ولكن لم يكن الحظ بجانب قلبها لأن خطيبها قبض عليه الأتراك، وسجن ظلمًا ثم أعدم مع قافلة الشهداء في سوريا ولبنان في 6 مايو 1915 على يد الجزار جمال باشا السفاح.
لقد كانت هذه الشاعرة البطلة الثائرة تتحدَى الجنود الأتراك وتذهب إلى زيارة خطيبها في سجن دمشق وتنقل إليه الرسائل وتشجَعه وتشد من عزيمته.
ولعبت الفنانة لمى الحكيم شخصية نازك العابد التي أتقنت العربية والتركية وشاركت في الحياة السياسية وطالبت وعملت على تحرير المرأة من الأمية والجهل والتقاليد البالية، فأنشأت أول جمعية نسائية عام 1914 م دعتها "نور الفيحاء" ثم تعاونت مع عدد من سيدات دمشق وفتياتها وأسّسن مدرسة بنات الشهداء العربيات.
وعملت في الصحافة أيضاً، فكانت لها مجلتها التي أسستها عام 1920 باسم ـ نور الفيحاء ـ نسائية أخلاقية أدبية، صدر منها تسعة أعداد، وشاركت في إقامة فرع للصليب الأحمر الدولي في سورية، وكانت أول رئيسة له، ومن مواقف نازك البطولية مشاركتها بمعركة ميسلون حيث حاولت إنقاذ حياة القائد يوسف العظمة. وتقديراً لشجاعتها منحها الملك فيصل مرتبة فخرية كنقيب في الجيش السوري.
وبعد انتقالها للعيش في بيروت مع زوجها قامت بتأسيس عصبة المرأة العاملة هناك كما وأدت الفنانة ميسون أبو أسعد في العمل شخصية “زبيدة” التي أصرت على زواج ظاهره يحقق لها الارتياح، ويعج باطنه بالذل، لتكتشف أن ضريبة ذاك الزواج كرامتها فتتمرد لتعلن الانفصال، لكن الزوج يسعى لقبول شروطها.
إنهن حرائر الشام رفضن الخنوع الذل والمهانة والانقياد للدولة العثمانية التي غصت بجميع أنواع الظلم وتركيع الشعب السوري، وإذلال حرائره، لكن نساء سورية بكل فخر لا يقبلن الظلم ولا يقبلن الإهانة تمردن على الواقع وحوّلن الظلام إلى نور.
كان عنوان المسلسل واضحا تحدث عن نساء ناضلن من أجل الحرية عبر شرائح ضمت الأديبة والكاتبة والمرأة المجاهدة حتى وإن كانت بسيطة في درجة تعليمها.
وكأن بي أرى إسقاطا أكبر على واقع نعيشه اليوم حين أرى وأسمع الأطماع العثمانية تمد سمها الزغاف في أرضنا وحياتنا التي كانت ملآى بالياسمين، الأطماع العثمانية تسعى جاهدة بكل ما تملك من قوة لتعيد أمجاد الامبراطورية العثمانية العفنة لا يقبلها إنسان سوري، قوته من سنابل القمح، وعطره من ياسمين دمشقي، وصوته من بردى.
لا وألف لا لاحتلال يعيث فسادا في أرضنا، ويذل حرائرها، وينتهك أعراضها، لا لهؤلاء القتلة السفلة الذين حرقوا الحجر والشجر والبشر.
“حرائر” تأليف عنود الخالد، إخراج باسل الخطيب، من إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي، ويضم عدداً من نجوم الدراما من بينهم: أيمن زيدان – سلاف فواخرجي – رفيق سبيعي – ميسون أبو أسعد – نادين سلامة – مصطفى الخاني– صباح جزائري.