حرائر الشام شقائق الرجال
للمخرج باسل الخطيب
في قلب الحياة المزين بالعظام والجماجم، والرؤوس المعلقة بأرجوحة الأبطال، ودموع النساء تملأ ما بين السماء والأرض كتبت عنود الخالد لـ "حرائر" الشام اللواتي كنَّ وما زلنَ شقائق الرجال، فرصف المخرج باسل الخطيب كلماتها بمنجزٍ إبداعي تتالت الصور فيه لتنعش الذاكرة لأيام عصيبة مرت على سورية الحب، منذ عقود ونيّف، وكأنها ترصف الواقع، وتصور ألم الحاضر، ووجع القتل والتشرد والدمار، وخطف شباب الوطن ليخوضوا غمار حرب ليست حربهم، بل لمطامع الامبراطورية العثمانية التي خرجت من سورية بعد أن أرخت ظلام جهلها، وجبروتها. يتَّمت ورملت، وسرقت الحب، ودفنت براعم الورد في مهده، وعلقت المشانق لرجالات الوطن على ضفاف نهر من الدماء والدموع.
إنها أطماع عثمانية كالحية الرقطاء، حاولت مرارا زرع السمَّ في عقول الرجال، لتجعل المرأة السورية حبيسة البيت، بلا علم ولا تعليم، وأجبرتها على لبس الكفن قبل مماتها لتمشي مثل غمامة سوداء على الأرض، بحجة واهية أن الاسلام هو الآمر الناهي لها، لكن الإسلام بحقيقته وعقيدته السمحاء لا يمت لتلك العادات والتقاليد بصلة، ولم يفرض على شقائق الرجال أن يلتحفن سواد القماش ليسترن أجسادهن، بل كانت معظم نساء المسلمين أيام حبيب الرحمن فقيهات متعلمات يخطبنَ بالرجال، ويعلمنهن أصول دينهم ودنياهم، وخير مثال على ذلك سيدنا عمر رضي الله عنه عندما جادلته امرأة في مهرها وهو على المنبر، أجاب "أصابت امرأة وأخطأ عمر" فمن أين جاء هذا المحتل العثماني ليجعل من شقائق الرجال متعة له، في البيع والشراء، ويتنطع ليفرض عليهن إطاعة ولي الأمر.
هل المحتل العثماني ولي لأمر نساء سورية ورجالاتها يأمر وينهي ويصدّقه الجاهلون من عامة الناس، ليحققوا رغباتهم الشخصية على حساب نسائهن أمثال السيد صبحي التاجر الكبير "أيمن زيدان" الذي حرم بنات أخيه من الميراث بحجة أن المرأة لا توَّرث، ونسي قوله تعالى "للذكر مثل حظ الأنثيين" أبدع النجم أيمن زيدان في تصوير ذاك الرجل المتسلط بذكوريته، ليخرج العمل مكتملا يسير في مواكب الأرواح التي فقدها المجتمع السوري آنذاك.
ولم يكتفِ التاجر الثري صبحي بالاحتفاظ بميراث أخيه بل تزوج من صبية جميلة بعمر ابنته زبيدة بحجة أن الإسلام حلل له مثنى وثلاث ورباع، لكن الإسلام واضح وضوح الشمس في السماء عندما تشرق تنشر اشعتها الذهبية على الكون وتجعل الرؤى سليمة حين قال الله عز وجل في محكم كتابه "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" وهل يتم العدل بين الزوجات عند متسلط ذكوري.
لكن الجهل قهر الزوجة والابنة والابن، وقهر زوجة الأخ عندما حاول حرمان بسيمة "سلاف فواخرجي" من بناتها، بحجة بلهاء تقضي بوضع البنات تحت الاقامة الجبرية في بيته دون تعليم، لكن بسيمة التي تفتح عقلها بصداقة الكاتبة ماري عجمي، وانتعشت ذاكرتها في بيت نازك العابد أبت أن تعطي بناتها للعم صبحي وسافرت بهما إلى بيروت لتضعهما في مدرسة داخلية لتلقي المعرفة والعلم الذي شرعه الله في محكم كتابه حين قال:
"هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" واضاف نبي الرحمة صلوات الله عليه: "العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" أي فرض عين، فكيف قبل بعض رجالات الشام بالرضوخ لمحتل تركي بمخالفة شرع الله.
المحتل التركي البغيض لم يكتف بذلك بل شطر قلب الحب بحربه البغيضة، وعلق أرجوحة الأبطال كما قال الفنان يزن "باترو باولي" وهو يبستم عندما تعلقت عيناه بعيني حبيبته ماري عجمي "حلا رجب" وكأنه يقول لها لا تجزعي فأنا سأموت شهيد الوطن وأخذ يردد بكل شجاعة "هلموا أيها الرجال، إنها أرجوحة الأبطال، وأنت يا تركيا الشقية، حياتنا في ظلك ممات، ومماتنا في ظلك حياة"، وذرفت ماري دموعها حتى سقت الأرض بها.
انبلج صباح السادس من أيار على أكبر مجزرتين في الشام وبيروت لرجالات الوطن، لكن المجتمع الذكوري لم تهتز له رمش حين سعى السيد صحبي "أيمن زيدان" تاجر القماش لزواجه من ألفت "نادين سلامة" وعراكه الذكوري مع عائلته وغضبه الذي صبّه على ابنته زبيدة "ميسون ابو أسعد" كونها وصلت مع عمتها من الأسيتانة، هاربة من "الحرملك" الذي فرضه عليها زوجها ووصلت إلى الشام دون جلباب أسود تكفن به قامتها البهية وتغلق الأنفاس على وجهها الجميل.
مسلسل دارت أحداثه بحارات الشام القديمة الرائعة، وفي بيت الفنان الرائع أيمن زيدان ليأخذ العمل طابعه الشامي المغاير لما عرضته البيئة الشامية التي انتقصت من المرأة السورية وجعلتها طوع مجتمع ذكوري، لأن المخرج باسل الخطيب روحه معجونة بياسمين الشام، وذاكرته ممزوجة بثقافة الشام، ونساء الشام المتعلمات والمثقفات، فجاء العمل من غخراج باسل الخطب مقدما أجمل صورة لـ "حرائر" الشام شقائق الرجال.
حين كانت الشام تزخر بالصحف والمجلات والنوادي الأدبية والثقافية في تلك الفترة من القرن المنصرم والتي تعود لحكم عثماني بسط نفوذه على سورية ولبنان لقمع أهلها لكن الدم السوري يأبى الذل والإهانة، ويأبي فروض الطاعة لمحتل عثماني بغيض، وعلى أثر إعدام شهداء السادس من أيار صرخ بعض الشباب والرجال الكارهين للمحتل العثماني والخارجين عن قيود المجتمع الذكوري أمثال سعيد "مصطفى الخاني" العثماني يطلع برة سورية حرة حرة.
أجل سورية حرة حرة لا تأبى الذل ولا الإهانة ولا الركوع لغير الله عز وجل، سورية ترفض كل أنواع الاحتلال نساء ورجالا وأطفالا وشيوخا، سورية التي أنجبت حرائر الشام شقائق الرجال وشهداء السادس من أيار، مازال رحمها مليء بالأبطال الذي سيعيدون الحق إلى أصحابه، وسيقفون بوجه العثمانيين الجدد الذين يتحركون ليعيدوا أمجادهم في دمشق بدء من حلب الشهباء.
عمل تاريخي من أول حرف كتبته عنود الخالد إلى إخراجه بأسلوب مغاير عن البيئة الشامية التي شوهت صورة المرأة الشامية وجعلتها مستكينة ذليلة بالوقت التي كانت المرأة السورية متربعة على عرش الثقافة من القرن الماضي سباقة إلى ميادين الأدب والفنون والصحافة، فالأديبة والشاعرة ماري عجمي المرأة الدمشقية الجريئة، اعتلت بالقلم بين أناملها ودخلت ميدان الصحافة حين كان حكرا على الرجال، فأنشأت أول مجلة نسوية في سنة 1910 تحت عنوان "العروس" وحكى عنها القاصي والداني وأصبح المجلة محط اهتمام الأدباء والمثقفين حين طرحت القضايا الاجتماعية والتربوية، ووجدت لها الحلول، كما ودعت إلى العلم والتعلم لأبناء وبنات سورية، وعلمتهم الذود عن الوطن والتمسك باللغة العربية. أما المناضلة نازك العابد "1887ـ 1959" "ابنة حي الميدان الدمشقي" والتي شاركت يوسف العظمة معركة ميسلون واستحقت لقب "جان دارك الشرق" كان لها بصمة حقيقية في النهضة النسوية في سورية، وأصدرت مجلة أدبية نسائية عام 1920 تحمل اسم "نور الفيحاء" هدفها نهضة المرأة السورية، إنهن حرائر الشام شقائق الرجال، ابدع المخرج باسل الخطيب حين أخرج الصورة الحقيقية للمرأة الشامية مع ثلة من النجوم السوريين المبدعين وعودة النجم أيمن زيدان للعمل مع باسل الخطيب بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً بعد ان سجل سلسلة من النجاحات آخرها "هولاكو" و "حنين" العام 2002، ليظهر في دور الرجل الشرير والسلبي متمسكا بالسلطة الذكورية أمام الحرائر.