ما بين رحيل الاحتلال العثماني وقدوم الانتداب الفرنسي على سورية نطقت قلوب الحرائر قبل شفاههن، واشتعلت إرادتهن قبل قولهن، لتعود المرأة السورية تتنفس الصعداء ويصدح صوتها من مجلة "العروس" في الساحة السورية بإصدار جديد عام 1919م تضم نخبة من المفكرين والمثقفين على امتداد مساحة العالم العربي لتعلن النصر الأكيد على الاحتلال الذي ترك وراءه الجهل والتخلف والعادات البالية، والتي لا تمت للإسلام بصلة.
فسطرت الكاتبة "عنود خالد" حروف روايتها بنار مقدسة من الحب والحرب لتعيد للمرأة السورية وهجها الثقافي، وألقها الأدبي وفكرها التنويري، فصور فصولها المخرج المبدع باسل الخطيب الذي جعلنا نعيش أحداثا كنا نقرأ عنها، وعن شخوصها، وإن تبدّت بالدم والخضاب، وأظهرت جانبًا من حياة الأديبة "ماري عجمي" بدور الفنانة "حلا رجب" التي عاصرت الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي وجعلت من مجلتها "العروس" منبراً للأدب والفكر الإصلاحي، والتربية الأخلاقية، والدعوة إلى تحرير المرأة من قيودها، والرجل من ذكوريته، فكانت رائدة في العمل الصحفي الذي كان حكرا على الرجال، وأول امرأة تُصدر مجلة في سورية، حين أسهم في تحريرها كبار الأدباء والشعراء الذين عاصروها أمثال:
جبران خليل جبران،
ميخائيل نعيمة،
إيليا أبو ماضي،
جميل صدقي الزهاوي،
معروف الرصافي،
إسماعيل صبري،
أحمد شوقي،
حافظ إبراهيم،
شبلي الملاط،
الشاعر القروي،
الأخطل الصغير،
إلياس أبو شبكة،
شفيق جبري،
عباس محمود العقاد،
إبراهيم عبد القادر المازني،
فارس الخوري،
وغيرهم كثيرون، مع بعض النساء السوريات أمثال نازك العابد، ما يدل على أهمية المجلة آنذاك وانتشارها في عواصم العالم العربي وبلاد الاغتراب.
استأنفت ماري عجمي إصدار مجلتها "العروس" التي سبقت عصرها بمائة عام فكراً وثقافةً ووطنيةً وعربيةً وتنويراً ونزوعاً للحرية والاستقلال والإبداع والتطوير والتحديث، وشدت انتباه المجتمع، بإصدارها الجديد، التي توقفت عن الصدور عام 1914م بسبب أزمة الورق عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، فأقبل القراء على مجلتها آنذاك حين وجدوا فيها مقالات وأبحاثاً قيمة تعالج المشكلات الاجتماعية والتربوية، وتدعو إلى الأخذ بالعلم والوعي الوطني للنساء والرجال معاً، وتطالبهم بالذود عن الوطن والتمسك باللغة العربية. فسطرت فيها قصيدتها العصماء عن الأمير فيصل التي تقول في مطلعها...
لِمنْ بَسُمتْ هذه الربوع الثواكلُ...
لِمَنْ خفقتْ هذه الصدور النواحلُ...
لِمَنْ هشَّتِ الدنيا وحَنَتْ رُفاتُها...
لِمَنْ شكتِ الظلمَ الدماءُ السوائلُ...
لفيْصلَ رَبُّ المجدِ من عزِّ بُغْيَةٍ...
لفيصلَ مَنْ أومَأتْ إليه الأناملُ...
لفيصلَ من للعربِ ردَّ فخارُها...
لفيصلَ من ذُلّتْ لديه الجحافلُ...
أحاديثُ وهمٍ أم هواجسُ نائمٍ ....
أم النصر حقًا قد جلته الفياصلُ..
سلامٌ على العُرْبِ الذين تهافتوا..
سلامٌ ودودٌ لا يَفيه المُخاتلُ...
هم النارُ إن أصْلَتْ عداها تخاذلوا...
هُمُ الأُسْدُ إن هاجتْ فأينَ المقاتلُ...
وأهلا وسهلا بالذين توافدوا...
لهم كل قلبٍ والضلوع منازلُ...
إنهنَّ حرائر الشام اللواتي أنار على تجربتهن وأخرجها إلى العلن المبدع السوري الفلسطيني باسل الخطيب بأبهى الحلل، وأجمل الصور، وأعطاها حقها للمرأة السورية المناضلة التي تأبى الظلم والإهانة والخنوع، وأعاد لها هيبتها من خلال الكاتبة عنود خالد بعد سنوات من تشويه صورتها في الدراما السورية ووضعها امرأة ذليلة قابعة في كنف رجل لا يفهم من الرجولة غير التأنيب والوعيد وفرض عضلاته بمجتمع ذكوري حين أسقط الضوء على قصة "بسيمة" بدور سلاف فواخرجي المنشورة في مجلة العروس أم لطفلتين تعلمت وعلمت وعملت من أجلهما رافضة كل أنواع الخنوع أمام أخو زوجها التاجر صبحي، وحققت ما تريد بعزيمة وإصرار بقالب درامي جميل ممشوق بموسيقى تصويرية تستدرجنا للبقاء معها وترحل بنا إلى ذاك الزمن الجميل الذي كان يغص بالإبداع رغم الاحتلال، ويعجُّ بالفكر التنويري رغم الانتداب، والذود عن الوطن، وكيف اعترض زوج الأخ على نشر القصة بذكوريته الجامحة.
زمنٌ حمل معه غرائب الحب النقي، وبشاعة الحرب المدمرة التي أجبرت شباب سورية على "أخذ العسكر" للالتحاق بالجيش العثماني كي تكبر الامبراطورية العثمانية على حساب الدم السوري، حب غاب جسدا وبقي روحا مع أرجوحة الأبطال بشنق شهداء السادس من أيار حين كان خطيب ماري عجمي من بينهم "باترو باولي"، كان يرفرف في روحها ليشد من أزرها على البقاء لتقود أمة بحالها، وهذا ما ينقلني إلى قول الفيلسوف فان هرست عندما قال:
"إذا علّمت رجلاً فإنك تعلّم فرداً، وإذا علّمت امرأة فإنك تعلّم جيلا".
فجاء الاحتلال العثماني ليرخي ظلام جهله على أمة بأكملها، ولولا حرائر الشام اللواتي تصديْن له بالمرصاد، واجهن بجرأة، بالعلم والثقافة والذود عن الوطن، فارتفع صوتهن عاليا في الحب والحرب، وتابعن مسيرتهن أمام الانتداب الفرنسي، وقلن كلمتهن التي كانت مسموعة في الشارع السوري رغم بعض المتخلفين من الذكور والذين يرفضون تعليم المرأة وتثقيفها، ومازال صوتهم عاليا في أغلب المجتمعات العربية لتبقى الأمة جاهلة، وبعيدة عما يحيط بها من خطر محدق يكاد يحرق الحجر والشجر والبشر.
وكأن الدراما السورية منذ بداية الألفية الثالثة رُصِدت لتصعيد لغة المجتمع الذكوري في استعراض البيئة الشامية التي لا تمت بصلة لحياة المرأة السورية المجتمعية والفكرية والأكاديمية، في مسلسلات فتحت أبوابها لترينا امرأة خانعة من العهد العثماني أيام "سفر برلك" في البيئة الشامية والذي أتمنى أن تُقفل إلى أبد الآبدين، ليُفتح مجتمع الحرائر الشامي ويمنحنا المزيد من الإبداعات التصويرية في دراما حاملة معها شعلة تنويرية لجيل قادم تتقد ألقا فكريا، وتذوب حبا نقيا يتجدد مع كل جيل جديد، دراما سورية لها أجنحة ترفرف حول العالم في سكينة الليل وشمس النهار، ليُصغي العالم لها ويرفع القبعة انحاء لوجود المرأة السورية المتعلمة والمثقفة بأسلوب شيق وجميل، وفكر يملأ العالم عن حرائر الشام في الحب والحرب.