بعد خمس سنوات عجاف مرت على سورية الحبيبة، حصدت الأخضر واليابس، وحرقت الحجر والشجر والبشر، وقتلت ورد الوطن، وسال شلال الدماء وتغلغل بياسمين الوطن فعجّت رائحة الأرض الخصبة بعبقه، واجتمع الوجع والنار ليسيّجوا الشام بزنار الألم، ويقضّوا مضاجع الناس، ويختلط فيها الحابل بالنابل، ويضيع وجه الحقيقة التي طالما يحلم بها الإنسان ليقرأ بين السطور، كي يلملم جراحات الوطن بدخوله للعناية المشددة علّ وعسى ينتفض الوطن كطائر العنقاء من بين الرماد.
فغصت الفضائيات في شهر رمضان المبارك بالمسلسلات السورية الراصدة للواقع السوري المعاش، تتالت بعلقم الحكايات في الأزمة السورية والتي أرخت بظلالها على المواطن السوري اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا وفكريا وفتحت الباب على مصراعيه للمناقشة بين القبول والإيجاب حسب الجهة المنتجة للعمل بكل معاييره المعمول بها لدى الرقابة لإجازة العرض أو منعه.
ويرصد مسلسل "عناية مشددة" من تأليف علي وجيه ويامن الحجلي، وإخراج أحمد إبراهيم أحمد، إنتاج شركة قبنض "يوميّات المواطن السوري في ظل الحرب والحب، وما آلت إليه بنية المجتمع السوري من ألم ووجع مما أدى إلى تدمير النفوس السورية من خلال شخوص اتسمت بمطلق العنف، والدموية، والانتهازية، واللاإنسانية، وذبح البشر دون رأفة وهم أحياء كالنعاج، مع مساحة لا بأس بها من قصص الحب، عند النازحين وإلقاء الضوء على أوضاعهم، والتحولات في العلاقات العائلية، ليدعو لـ "المصالحة" بنهاية المطاف.
لكن أكثر ما لفت النظر بتلك العناية المشددة كلمات شارة المسلسل التي تناقلها على جواله الكبير قبل الصغير والتي صدح بها النجم آدم أخذتنا لعالم مقهور على أرض الشآم، وحرّكت معالم الإنسانية في الروح، وأظهرت القهر الموجود بنفس كل إنسان سوري.
ويمرُّ بي طيفها وتسكن الأحلام...
جميلة وأحبها واسمها شآم....
شو مرق على راسك...
شو تغيروا ناسك....
ليش هيك فيك صار...
اجتمع الوجع والنار....
صاروا إلك زنار...
يا أرض السلام...
معليش إلك الله والملائكة حراسك...
ها الكم سنة شو تغيرت فينا الدنى...
كبرنا عمر ودقنا القهر ...
متل الشجر منموت ما منحني....
بالرغم من الكلمات التي تشق ضلوع الصدر وتنخر في العظام، وتدفع الدمع في المآقي إلا أن المسلسل لاقى منعا هذا ما صرح فيه مدير رقابة البرامج في التلفزيون السوري غياث سليطين لـ "بوسطة" بأن القرار بمنع عرض مسلسل "عناية مشددة" على المحطّات الرسمية السوريّة، أتى "نتيجة عدم توافق العمل مع المعايير المعمول بها لدى الرقابة لإجازة العرض، بحسب تقرير لجنة مشاهدة مؤلفة من ثلاث أشخاص، تابعته قبل إصدار تقريرها، وأتى هذا التقرير موافقاً لتقرير لجنة المشاهدة الخاصة المرتبطة بإدارة التلفزيون مباشرة، والتي أعادت مشاهدة المسلسل بناء على اعتراض الجهة المنتجة، مما يعني عدم إجازة عرضه" على القنوات الرسمية.
وأنا بدوري من خلال بانوراما أوافق رأي مدير الرقابة بمنع عرضه نظرا للمشاهد القاسية الذي تخللها المسلسل والتي تدل على مجتمع دموي يسعى للقتل والتدمير والنزف الدموي، مجتمع القوي فيه يقتل الضعيف، والمجرم ينال من البريء دون أي سبب، فكانت سكين الجزارة "أمانة ولي" تهوي على الرقاب دون الاحساس بالإنسانية، فجاءت الصورة مؤلمة إلى حد الصراخ، والتساؤل هل وصل المجتمع السوري إلى العنف الدموي من أجل المال؟
هل وصل المجتمع السوري إلى القتل والخطف والاغتصاب بعيدا عن الإنسانية وإن كانت الضحية هي الأخت وهي العرض والكرامة؟
هل وصل المجتمع السوري ليبيح كل المحظورات ويلقي بكل القيم الإنسانية والأخلاقية عرض الحائط من أجل حفنة من الدولارات؟
هل أصبح بعض مكونات المجتمع السوري آيلة للسقوط؟
وشذَت عن الواقع الإنساني واستغلت ظروف الحرب القاسية، لتختم إنسانيتها بالشمع الأحمر وتضرب بكل القيم الأخلاقية عرض الحائط؟
أم حفنة من الدولارات غيّرت المفهوم الإنساني تحت اسم الدين والذي أصبح جلبابا لبعض المارقين والقاتلين وشذاذ الآفاق، وجعلت منهم أدوات لشرذمة صهيوأمريكية عاثت فسادا في الأرض السورية، فظهر على السطح أولئك المتشدقين بالدين والإسلام برعاية غربية، والإسلام منهم براء، تحت مسميات عدة.
وقد استغرق العمل على المسلسل قرابة العامين، بعد أن واجه صعوباتٍ كبيرة لإجازة النص من جانب رقابة النصوص، ومنح الإذن بانطلاقة تصويره، بعد إجراء بعض التعديلات، ولم يكن تصوير “عناية مشددة” سهلاً، حيث واجه فريقه من فنيين وممثلين مخاطر هددت حياتهم أكثر من مرّة، لأن التصوير تمَّ بالكامل على الأراضي السوريّة، وفي مناطق ساخنة، لكن قرار المنع عائد لرقابة التلفزيون السوري من خلال وجهة نظرها، كونها باتت أكثر تشددا من ذي قبل مقارنةً بسنوات ما قبل اندلاع الأحداث في سوريا.
هذا وقد شارك في المسلسل نخبة من النجوم السورية والعمل بطولة نخبة من ألمع النجوم السوريين منهم عباس النوري، أمانة والي، وأيمن رضا، ومهيار خضور، ومرح جبر، وسليم صبري، وفادي صبيح، ورامز الأسود، وحلا رجب، ووسيم قزق، ومهند قطيش.
وقد جسد عباس النوري في العمل شخصية "أبو المعتصم" الموظف الفاسد الذي استغل الأزمة لجمع الثروة، وتعزيز النفوذ، هذا ورصد العمل يوميات المواطن السوري خلال الأزمة، كما تضمن قصصا موثقة من الواقع صورت انعكاسات الأزمة على السوريين من كافة النواحي الاجتماعية والنفسية والمادية، وكيف آلت بهم الدنيا.