حين كانت فيروز ترتل أغنيتها الشهيرة "ورقو الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك ذكرني وورقو دهب مشغول ذكرني فيك..." صباح العيد الأكبر يوم الاثنين 12.5.2016 م قُرع جرسُ الباب وكأن القادم يحمل بين يديه مِدْفّع هاون، فتحت الباب لأجد أمامي صديقتي منتصبة وجهها مغسول بدموع أشبه بشلال كثيف مصبوع بالدماء، مشيرة إلى الشاشة الزرقاء، فتحتها لأرى حلب تغرق بدماء أبنائها وأطفالها، وكأن الإنسان السوري أصبح قيد الموت الزؤام، ألا يكفيهم ما حدث يوم 5.9.2016م الأحزمة الناسفة في شوارع سورية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، مُغَطِّية مساحاتٍ كبيرة من الوطن الحبيب.
شتان بين ما كنت أسمع من كلمات حب، تصدح بها فيروز "رجع أيلول وأنت بعيد بغيمي حزيني قمرها وحيد.. بيصير يبكيني شتي أيلول ويفيقني عليك يا حبيبي..." لأرى نزيف إرهابٍ قذر يديره شياطين الإنس تحت مسميات عدة، يلتحفون أحزمة الموت ليهدوها لأبناء الشمس، متناسين أن أبناء الشمس لن يسمحوا لهم بالمرور، ولن يمروا، ولن يدعوا أي معتوه أو متخلف أن يتربع في حضن الوطن، أو يقتطع جزءً منه، لأن الياسمين يرفض اليد الآثمة القاتلة.
صمتتُ أمام حزنها الشديد، وحاولت أن أخفف عنها ما استطعت إليه سبيلا، لكن فوجئت بها تكمل الأغنية وكأنها تنشد مرشًا عسكريا "ليالي شتي أيلول بتشبه عينيك.. يا ريت الريح إذا أنتَ نسيت حبيبي أول الخريف وما جيت.. ينساها الحور وقمرها يغيب وليلا يطول.. ونبقى حبيبي غريبي وغريب أنا وأيلول".
وصرخت بأعلى صوتها أصبحنا "غريبي وغريب أنا وأيلول" امتدت يد الإرهاب يوم العيد الأكبر وخطفته في حلب الشهباء، ومات حبنا على قارعة الأحلام، لم أعد أسمع صوته يكللني بأجمل العبارات، وهو يحتضنني بعينيه، لنتحد بألوهية واحدة على وجه الأرض.
كلماتها عقدت لساني عن الكلام، وضربات قلبها أشبه بناقوس يدق في عالم الموت، بل كانت تحتضر أمام عينيّ ولم أملك دفعا لمشاعرها المشتعلة بالحب لحبيبٍ تلاشى بين غمضة عين والتفاتتها، وارتقى إلى السماء شهيدا تحفه الملائكة. حاولت أن أهدئ من روعها، من وجعها الذي ارتسم على وجهها الجميل، وشقت الدموع وجنتيها كحد محراث مرَّ بهمس حصاده اليومي، وضرب الألم جسدها النحيل الذي طالما طحنته الأيام والسنين حتى بقي قيد انتظار لن يعود. تابعت أخبار تلك الشاشة الزرقاء التي تسمّرتُ أمامها، ألا يكفينا ما حدث منذ أيام في طرطوس وامتد إلى حمصَ ومن الشام إلى الحسكة مرورا بحلب الشهباء، رأيتُ مخالبَ الإرهاب تمدُّ ألسنةَ الموت، وتطحنُ رحى الحياة في كل ركنٍ من أركان سورية الحبيبة، وتهدمَ قلوب الحب، وتقلع عيون الأحبة، لتزرع الخوف في النفوس البشرية. كانت وما زالت وسائل التواصل الاجتماعي مصبوغة بدماء الشهداء، ومشتعلة بعبارات العزاء، حتى صديقتي مها التي أسمع صوتها من إذاعة SYRIA R4"حملت كلماتها وجعا وبضع حنين، حين أخبرتني بعد الاطمئنان عليها أن السيارة التي كانت تسافر فيها من طرطوس إلى دمشق بنفس المواعيد كانت على الحاجز الذي هاجمته مخالب الإرهاب. أي شعور انتاب صديقتي مها غير الوجع والألم، وقادتها الذكريات إلى الترحُّمِ على الشهداء بحسرة والتي لا تملك دفعا لها. أي وطن نعيش؟ وأي حرب تلك التي سرقت أجمل سنين عمرنا، وجعلت الأمهات ثكالى، ويتَّمتْ أطفال الحنين، وشقتّْ رؤوس الأحبة وتناثرت أشلاؤها في فضاءات الله والتي صبغها الإرهاب بقذارته ودمائه حين امتد يده للأبرياء على تلك الأرض الطيبة المقدسة التي ارتوت بدماء الشهداء. أي رعب يمر على حواسنا ويستأصل أمننا وأماننا؟
وينثر عبق المدن الرابضة على بعد من مسافة الشوق بعد أن كانت ترفل بالحياة والحب، وتُطَمْئِن الأنبياء المارين بالنسك الهادئ أنتم في مدن الحلم والأبجدية الأولى، لكن الحرب الزانية اغتصبتها دون سابق إنذار وانتهكت روحها المقدسة بعدما كان نسّاكها متعبدين في الزوايا عند أقدام الليل، أصبحوا مستويين على سطح السماء يتعبدون في محراب الله، تتكاثر أرواحهم محلقة في أرجاء الكون، وتمدُّ خاصرتهم الليلية بعطر الشهادة وعبق الأمسيات حاملة معها ماء مقدسا وكسرة خبز على سجادة من نور الله.
نحنُ أبناءُ الشمس.. لأرواحهم تولد الأناشيد في أيلول الأصفر، ولغيمهم الأزرق تحوم النوارس ترتل آياتٍ بيّنات من وجعِ الفراق، ومن بحرهم الهائج تمتد شفاه الموج حاملة على متنها رسالة مرصعة بذهب أيلول، ومتكئة على جسد الماء مكتوب عليها نحنُ أبناءُ الشمس لن يُرْهِبُنَا إجْرامَكم، ممتدة بعبق الدعاء، ولا تترك ناسكا يموت عن قطرة ماء لتَعْشَوْشِبَ الأرض وتشرق بنور ربها، ويزهر شجر الياسمين، ويفوح التنور بخبز أبناء الشمس مسطور عليه عيدنا النصر لسورية الحبيبة يرتع على سفوح الوطن، ويغني مع فيروز "ورقو الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك ذكرني وورقو دهب مشغول ذكرني فيك...".