كل أسبوع أنبشُ ذاكرة أحزاني، وأمتطي صهوة قلمي لأترجمَ واقعًا مؤلمًا دامَ خمس سنواتٍ ونيّف في وطننا، عاثتِ الحربُ القذرة به، فتشتت شملنا بعد اغتصابِ الياسمين، وتفرّقَ أهلنا بعد قطع الرؤوس، "وضاعت دماؤنا بين القبائل".
"وضاعتْ دماؤنا بين القبائل"
عبارةٌ سرحتْ بروحي مثل النارِ في الهشيم، ودخلتْ قفصَ الذاكرة لترسمها العين عنوانًا لمقالي، خطتها أنامل صديقي الدكتور نور الدين ناصر رئيس شعبة الجراحة العامة لدى مشفى الباسل طرطوس، على صفحته في الفيس بوك، وكأنني كنت مرصودة لها حين اختصرتْ واقعًا مؤلمًا، فجّرتِ الوجع، وترجمته إلى الضياع على مساحةٍ امتدت بين القبائل التي لم تعرف حضارة مثل وطن الياسمين، ولم تدرك أبجدية كمهد الحضارات، قبائلٌ لم ترحمْ، هدرتْ دماؤنا، واستحلتْ ديارنا، وحرقت وطننا حتى غدت بيوته تشكيلا فنيًا في عالمٍ أجادَ اللّعب على العقول غسلها، والنفوس شوّهها، وما تبقى منها بقيت ساهرة مع أشباح الليل لتتقنَ فن اللّعب على قوتِ الشعب، وتحيكُ الضغائن، وتلوَث الألسن بعباراتٍ فجة، وتعمي البصيرة.
هو ذاك الخبث الحقيقي الذي تكلم عنه يوما ما النبي جبران خليل جبران حين قال:
"بخبثهم قد فرّقوا بين العشيرة والعشيرة، وأبعدوا الطائفة عن الطائفة، وبغّضوا القبيلة بالقبيلة، فإلى متى نتبددُ كالرماد أمام هذه الزوبعة القاسية، ونتصارع كالأشبال الجائعة بقرب الجيّف النتنة؟".
أصبت يا صديقي الدكتور نور الدين ناصر فأوجزت الوجع حين قلت "وضاعت دماؤنا بين القبائل" وكأنك امتداد لهذا الكاتب العظيم الذي غادرنا بجسده منذ آلاف السنين، وبقيت روحه ترفرف في عقولنا، حين حذّر من ذاك العبث، ومن تلك اللعبة حتى لا تصيبنا بالزوابع، ولا نواجه الأعاصير التي دمرت الحجر والشجر والبشر، وهدمت الوطن عن بكرة أبيه.
حقا "وضاعت دماؤنا بين القبائل" واحترق وطننا، بعد أن بناه أجدادنا بسواعدهم المفتولة، ورفعوا أعمدة الهياكل والمعابد بعقولهم، ونقلوا المياه حين اخترعوا نواعير الحياة لتسقي زرعهم وضرعهم، وحملوا الحجارة لصناعة الأسوار لتحميهم، وأقاموا أبواب المدن وزخرفوها بأجمل التصاميم، وبنوا القلاع لتكون حصنا منيعا بوجه كل عدو غاشم.
كم نبشتْ في ذاكرتي تلك العبارة
"وضاعت دماؤنا بين القبائل"
كلام جبران الذي قال:
"إلى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم، وإلى متى يتوعد الجار جاره بجانب قبر الحبيبة، وإلامَ يتباعد المسجد عن الكنيسة أمام أعين الله؟".
أما آن لهذا الفكر أن يلتقي تحت سماء الوطن!!!
أما آن لهذا العقل أن يدرك واجباته تجاه الوطن قبل أن يعرف حقوقه!!!
فمن شرارة واحدة اشتعل القش اليابس وأحرق القلوب، ومن سحابة واحدة لمع البرق وهطل الهتّان الذي تحول إلى ودْقٍ سريع، والمُزن استحال إعصارًا جرف معه الأخضر واليابس.
ليته هطلَ هذا الودْق إعصارا على الرؤوس المرفوعة على العظام، والجماجم المصاغة بذهب الحرية، المغمورة بدماء الأبرياء، وأرواح الشهداء.
ليته جرف هذا الإعصار العقول الممغنطة بـ ـ الدم قراطية ـ والنفوس المغمسة بالحقد، والبصيرة العمياء، التي قتلت الحكمة، ودقت أبواب عدوٍ غاشم باتت في أحضانه، تلتمسُ الحب والمحبة والقرب، وتحلم بالجلوس على العروش، بعد أن قتلت واغتصبت واعتقلت في غياهب السجون، من مقاصل فرعون إلى أسياف هيرودس، ومن براثن هولاكو إلى أنياب الشيطان، ومن الدب الشرقي إلى الوحش الغربي، ومن ساحات تقسيم إلى ساحات النفاق والحرية تحت شعار الإنسانية، أين نحن سائرون أمام مطامع الغرب ومظالم المغول؟
متى يقبل شفاه الموج خدود الشطآن لنصل إلى بر الأمان؟
أيتها السماء نرفعُ الأكفَّ فارحمينا، وعلى تلك الأرض المقدسة نسجد فاغفري خطايانا، وتلك أرواحنا الباقية ننشرها في فضاء رحب فاستقبلينا، وعلى أجسادنا نقشنا في القبور احترقت أوطاننا، "وضاعت دماؤنا بين القبائل" هكذا قال صديقي الدكتور نور الدين ناصر كل التحية والمحبة له، فكيف ألملم تلك الدماء التي ضاعت بين القبائل لأعلن الحبَّ على الهتّان.
حينَ رأيتُ هَطْلُكَ....
أيها "الهتَّان"....
تدثّرتُ بـ عبقِ الحلم....
حينَ استمرَّ ودْقُكَ...
وصلتُ إلى ذروة الحلم....
معكَ عرفتُ الفرح....
تحتَ مُزْنِكَ ....
راودتُ الحبيب....
قال: هيتَ لك....
من عبابكَ ...
ارتوتِ الروح بدلَ الدماء....
تفتحَ زهر الليمون...
انتشى القلبُ حبًا...
والياسمين نقاءً...
من وابلكَ ....
ارتعدتْ مفاصلي عشقًا....
وتحتَ غيثكَ ....
مررتَ في طريق السالكين حاضرًا....
أيها الرذاذ ...
الساكنُ صوتًا....
الطلُّ همسًا....
الوابلُ حرفًا ....
كم أحبكَ......