للشامِ عشقُاها، ومحبيها، تغنوا على بواباتها الشعراء والأدباء، والفنانين رسّخوا أجمل الشعر لها، وعلتْ تراتيلهم في فضائها فرسمت سمفونيات محبة في سمائها، ولم تنل عاصمة على وجه المعمورة كما نالت الفيحاء قداسة وتجذرا وسؤددا، مهوى الأفئدة، وملهمة الشعراء والقديسين.
وكان لأيقونة المحبة وقفات على بواباتها لتنثر شلال صوتها ترتيلا وتقديسا وتعظيما، السيدة فيروز قيثارة الحياة لم تبرح مناسبة في دمشق إلا وصدح صوتها شجيا، ويبسط حنانه الملائكي يعانق السماء الرحب.
قيثارة الحياة فيروز حتى وإن أطفأت شمعة عقدها الثامن في 21 نوفمبر 2015م دمشق لا تنسى عشاقها ولا محبيها تلك الطفلة نهاد حداد التي ولدت في 21 نوفمبر 1935م لتغير مسيرة فنية على امتداد مساحة الوطن العربي بصوتها الملائكي الساحر الذي يرخي بإيقاعاته على الفضاء فيمتزج بصوت الغمام ويرحل معه إلى كل بيت.
مشوار طويل مع الأخوين رحباني في سماء الفن لتضع بصمة مشرقة بصوتها يتمايل كريح البَليل حين يلامس أرواحنا، ويسكن في أفئدتنا بتقاسيم ساحرة لها إيقاعات تجاوزت حدود الزمان والمكان.
تراتيل صباحنا مع فنجان قهوة يرسم ملامح روحها، وأنغام أحلامنا في مساءات العشق، نهر خالد هي، وشلال لا ينضب فرحا، حزنا، آهة، وجعا، وطنية، ظلما، إنسانيا، صاغت وجداننا في الحب والحرب، وحاكت من إنسانيتنا إيمانا عامرا بالوجدان الوطني والعروبي، عشقها له سحر الوطن، وحبها ولد للعواصم، غردت من كلمات الشاعر اللبناني جوزيف حرب
لبيروتْ.
مِن قلبي سلامٌ لبيروت
وقُبَلٌ للبحرِ والبيوت
لصخرةٍ كأنّها وجهُ بحّارٍ قديم
هيَ مِن.. روحِ الشّعبِ خمرٌ
هي مِن.. عرَقهِ خبزٌ وياسمين
فكيف صار طعمها.. طعم نارٍ ودخان
لبيروت ..
قيثارة الحياة صوتها مغروس بالأمل والألم، بالعشق والشوق، بالحنين والمحبة،
ألهبت روحها كلمات الشاعر اللبناني سعيد عقل فصدحت بقلب دمشق
شامُ يا ذا السَّـيفُ لم يِغب
يا كَـلامَ المجدِ في الكُتُبِ
قبلَكِ التّاريـخُ في ظُلمـةٍ
بعدَكِ استولى على الشُّهُبِ
لي ربيـعٌ فيـكِ خبَّأتُـهُ
مِـلءَ دُنيا قلبـيَ التّعِـبِ
يومَ عَينَاها بِسـاطُ السَّما
والرِّمَاحُ السودُ في الهُدُبِ
أليست الوطنية مغروسة في وجدانها؟
أليست مسكونة في عشقها؟؟
حين يلفظ لسانها الشآم تنتفض مع اليمام لتؤدي تحية المحبين، لأن دمشق تعرف من يحبها، وتدرك تماما من يعشقها، وتحضن من يرتل إيقاعا في حضرتها، وتدثر بياسمين شجرها المورق نساكها ودراويشها، ويترقرق بردى حين يسمع سمفونيتها.
أنا صَـوتي مِنكَ يا بَرَدَى
مثلما نَبعُـك مِـن سُـحُبي
ثلـجُ حَرْمُـونَ غَذَانا مَعاً
شامِخاً كالعِـزِّ في القُـبَبِ
وَحَّـدَ الدُنيا غَـداً جَبَـلٌ
لاعِـبٌ بالرّيـحِ والحِقَـبِ..
وغردت فيروز في سماء دمشق بصوتها الملائكي من كلمات والحان الأخوين الرحباني
لي فيكَ يا بَرَدَى عهدٌ أعيشُ بِهِ
عُمري ويسرِقُني من حُبِّهِ العُمُرُ
عهدٌ كآخرِ يومٍ في الخريفِ بَكَى
وصاحِبَاكَ عليه الريحُ والمَطَرُ
هنا التُّرابَاتُ من طِيْبٍ ومن طَرَبٍ
وأين في غَيْرِ شامٍ يَطْرَبُ الحَجَرُ
أي صوت صدح بتلك الكمات إيقاعا ولحنا وموسيقى عذبة جعل القلب يستفيق من غفوته على حب الوطن وعشق الوطن بانتماء حقيقي، مع حب لأهل الشام وما لاقته قيثارة الحياة من ضيافة كريمة في قلب الشام ومن أهلها.
شَآمُ أَهْلُوكِ أحبابي وموعِدُنا
أَوَاخِرُ الصيفِ آنَ الكَرْمُ يُعْتَصَرُ
نُعَتِّقُ النَغَمَاتِ البيضَ نَرْشُفُهَا
يَومَ الأماسيُ لا خَمْرٌ ولا سَهَرُ
قد غِبْتُ عنهم ومالي بالغيابِ يدٌ
أنا الجناحُ الذي يَلْهو بِهِ السَفَرُ
يا طَيِّبَ القَلْبِ يا قلبي تُحَمِّلُنِي
همَّ الأحِبَّةِ إنْ غابُوا وإن حَضَرُوا
أيقونة المحبة ظل عشقها للشام مثل غمامة تظلها بظلها شقيقة بالفر والحزن، عشق مليء بقطرات الندى من الشروق إلى الغروب، كانت تغني من عمق إحساس كبير، من شوق هاجع لأعماق الحياة، من حنين خافق لتاريخ عريق يحمل حضارة لا مثيل لها إيمانا منها بعشق الأرض كسيدة عربية تؤكد على الثقة بحب الوطن من الإيمان، حتى جعلتنا ننبض بعش التاريخ الطويل في عالم عربي، مازال يتألم من احتلال صهيوني في فلسطين قلب الحب فصدح صوتها للقدس من كلمات والحان الأخوين رحباني "زهرة المدائن"
لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن
يا قدس يا قدس يا مدينة الصلاة
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الأسراء يا درب من مروا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم و إنني أصلي
مهمها تكلمت عن وجدان فيروز لن أفيها حقها من بالوطنية والحنين لعالم عربي يتفتت يوما بعد يوم، والضمير الذي كان مستيقظ لا ينام، يحرك القلب لتنبه إنسانيتنا حين غنت لمدينة الرشيد بغداد من كلمات وألحان الخوين رحباني:
بغداد والشعراء والصور
ذهب الزمان وضوعه العطر...
يا ألف ليلة يا مكملة الاعراس..
يغسل وجهك القمرُ..
بغداد هلّ مجد ورائعة
ما كان منك إليهما سفر..
أيـام أنت الفتح ملعبه
أنّا يحط بجناحه المطرُ..
أنا جئت من لـبنان من وطن..
إن لاعبته الريح ينكسرُ
صيفاً ولون الثلج حملني
وأرق ما يندى به الزهرُ..
مهما تكلمت عن فيروز لن أفيها حقها صاحبة الصوت الملائكي الذي صنع إرثا فنيا عظيما خلال مسيرة فنية حافلة بالعطاءات حين أنشدت ورتلت فجعلت بيننا وبينها برزخ من صمت يحمل وقارًا لأيقونة المحبة وقيثارة الحياة، وصل صوتها إلى أصقاع العالم ويستمع إليها القاصي والداني في صباح المحبة، وفي مساءات السكون عندما تختبي الأحلام فتسعى عيون البدر لترصد الأيام.
ماذا نقول لك في يوم ميلادك يا أيقونة المحبة، يا قيثارة الحياة ألف عام وعام يرفل بالسعادة نضيء لك شموع المحبة في طريقك، وننثر لك ورود الحب، ونجعل الياسمين يعرش من بين همس أصابعك صاحبة الصوت الملائكي، والحاملة للقيم النبيلة في حب الوطن والأرض والجمال صباح مساء، كل عام وأنت الحب يا أيقونة المحبة.