مئات الرسائل وصلتني محملة بالعتاب المبطّن عن عشقي لوطن الياسمين، بل آلاف الرسائل روت لي قصصَ اعتذار من دخول صفحتي المنغمسة بعشق الوطن، مع ختم رسمي من الخوف واللاخوف على شفاهٍ بلون الرمان، مصكوكٌ عليه جرأة لا مثيل لها بعشق الوطن والموت على سفوحه دفاعا عنه ولو بالكلمة الحرة.
لم أكن أدري أن العشق للوطن تهمة يُعاقب عليها القانون، أو جريمة لا تُغتفر يتنصّل منها المُحبّون، ويعاتبون من وراء ابتسامة تدور بين المزح والجد علّ تلك الرسالة تصل بأمان لقلب العاشق محملة بمنقار حمام زاجل ينقل رسالته بصدق وأمان.
لم أكن أدري أن العشق للوطن له قوانين مفصّلة على مقاس معين، لا يُسمح لأي أحد عبور تلك القوانين دون تأشيرة دخول أو فيزا قابلة للإجهاض.
لم أكن أدري أن العشق للوطن له حدود لا يمكن تجاوزها، أو العبث بها، أو الوقوف على أسلاكها.
لن أبررَ لأحد هذا العشق الذي لا يسمو له عشق في الوجود، حين يحل في روحي سمفونية لا ترتضي الألفاظ والعبارات المُسقطة من المبعثرين ثوبا، سمفونية تقطن بين البطيْن والأذيْن لتحتضن القلب يجمعهما الهوى ويفصلهما الموت.
لن أبررَ لأحد هذا العشق الذي ولد معي منذ نعومة أحلامي، تفجَّر في داخلي كلما انفقع الندى على شفاه الورد في بكورة الأيام، فيبتسم الدحنون من بين الطلول، ويزهر الياسمين من بين أفق الهمس، ويفوح الفضاء بعطر الوطن، وتسرحُ الغاديات لترصِّع السماء بلوحة سوريالية، كأنها قُدّت من تاج عشتروت لتزيّن الحقول والبساتين، بقوسِ قُزحٍ، وتغدو سنابل القمح تتمايل لتطبع قبلة المساء على وجه الشوق، وينفجر الضياء عن فجر يشرق مع شمس الصباح، كأنها رسولٌ مُسْعف تلفني بأغصانها الذهبية وشاحًا ينهمل على جسدي خوفا عليّ من البرد كي أبقى على قيد العشق.
هو الوطن مهما رسمتُ له من لوحات فسيفسائية لن أفيه حقه، ولن أعطيه جزء يسيرا من خيراته، التي درستني على بيادرها بهمس حصادها يومي، وابتسمت لي الحنطة من بين نسمات الحياة بلونها الذهبي التي كانت تشرق بروحي إشراق المحب للمحب، تبشر بالخير الكثير لوطن طالما كان دافقا بالخير، مكتفيا عن السؤال، انتفض لآلام الآخرين، شاركهم أحزانهم وأفراحهم، شاركهم مصائبهم، منحهم الخير الكثير، من لم يدر له الظهر طعنه من الوريد إلى الوريد، ورقص على أحزانه، اغتصب نساءه، وتاجر بأبنائه، لم يتوانى، بل استغل النفس الأمارة بالسوء من أهله، فجاء دود الخل ليكون منه وإليه مضافا لآلامه، التي ما برحت تنزف حتى عجَّ عبقها وسارت على أجنحة الأثير.
وطن السلام كنت أطرق بأناملي بلَّوْر نوافذه، فتعزف أجمل السمفونيات، وتؤلف أجمل الطرقات نغمة الحنين التي تنساب في الروح فيتفتق الحلم الجميل في النفوس الهادئة، وكنت أسرح تحت شجر الحور فتميل كأم حنون، تعانقني تحضنني لترمي بظلها المكنون، وكلما أسرعت الخطى للقاء حبيب سمعت ضربات قدميه على أرض طاهرة، فينساب ريحه في نفسي كريح يوسف عليه السلام ليعلن عليّ العشق الجميل، فأنسج له من أغصان الشمس طريق المحبة، ومن أفلاك الوطن نورًا يُستضاء به، ومن أهداب القمر سجادة للحضرة المسائية.
لم ينقطع حبلي السري بعد يا وطني، ما زلت على قيد حبك، ينبض بالقلب، وما طربتُ لعطر غير عطرك يفوح من خصلات شعري كلما هبّت النسائم وناحت على الأيك الحمائم، وما ارتويت إلا من مائك كلما راودني العطش، ولا أطهر من مطرك حين يتساقط على مساحة جسدي، وتخترق قطراته شرياني ووريدي، وترسم جزرا صغيرة مزروعة بالياسمين على جبيني، وتطبع قبلة على شفتي بطعم الياسمين.
لم أمرّ بك كعابر سبيل يا وطني، ولست كعابر سرير، أنا من جذورك التي انغمست من ملايين السنين، من أبجديتك التي شكلتها حنجرتك، نشأت تحت قلاعك وبين روشان قلبك، وسمعت أنين نواعيرك، أقمت صلاة ليلي في محراب عينيك، داعبني الكرى على ضفاف نهرك، وأصبح صوتي من بردى حين توضأت من مائك وأقمت صلاة ليلي حاضرا، وقُدَّاس نهاري هائما في ملكوتك.
لم تثقل عيناي الكرى في ساحاتك، في براريك وحقولك، وتبقى فرحي ما لم أفُطَم من عشقكِ، عشق لن يُترجم إلى أي لغة في العالم، وليس له خط بياني كعشق الحبيب، هو عشقٌ شبيه الأم أطلب رضاها كلما بدا مشرق وحل مغيب، أقبل رأسها ويديها كلما مررت بها، فالجنة تحت أقدامها، لا تعطوا وطني للذين بنوا آمالا على جماجم الضعفاء، وخزَّنوا الذهب والفضة من قوت الفقراء، وشيّدوا القصور على دماء الأبرياء، وسرقوا البسمة من وجوه الأطفال والنساء، وتاجروا بدفء القلوب والأجساد حين انهمر سِقْطُ صقيعك، وخلعوا ستائر الحياء فسقط القناع عن الوجه الأسود الذي لا يدرك ما تقترف يداه تحت سماء الوطن.