كلما أصبحت أعياد الميلاد قاب أيام أو أدنى شرد فكري إلى آل عمران كيف ذاقوا مرارة التعذيب والتنكيل من اليهود في القدس، لأن الله اصطفاهم على العالمين كما اصطفى من قبلهم آدمَ ونوحًا وآل ابراهيم.
ونذرت حنَّا زوجة عمران ما في بطنها بعد صبر طويل إلى الله عز وجل "إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (35)
لم تكن تدري أن بيت الله مخصصا للذكور فقط دون الإناث عند اليهود، الذين حرّفوا الكلِمَ عن مواضعه في شريعة موسى عليه السلام، وامتهنوا إنسانية الأنثى، واعتبروها أقرب للوثن المدنس منها للإنسانية الطاهرة، واختلقوا الأعذار بإبعادها عن دور العبادة حتى وصل بكل يهودي حين يصبح يقول "مباركٌ أنتَ يا رب لأنك لم تخلقني وثنًا ولا امرأة" مع العلم أن الله عز وجل كرّم المرأة حين اصطفى مريم البتول بأن تكون أما للسيد المسيح عليه السلام وسيدة نساء العالمين.
ولدت مريم البتول وعلى وجهها نور الله عز وجل " فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36).
ذكر لنا أن محمد بن عبد الله صلوات الله عليه رسول العدل والتسامح:
"كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جُعل بينهما وبينه حجابٌ، فأصابت الطعنة الحجابَ، ولم ينفذ إليهما شيء، وأنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم، وأنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص".
وما إن بلغت مريم عليها السلام السادسة من عمرها حتى أودعتها والدتها لخدمة بيت الله في أبهى حللها، وأجمل صورها المقدسة طفلة في براءتها، عفيفة في مشيتها، يفوح عطر العبادة من تقاسيم وجهها الساجد بين يدي الله عز وجل، ومن يديها الطاهرتين المرفوعتين بالدعاء إلى الله في آناء الليل وأطراف النهار دعاء وعونا للفقراء والمساكين بإذن الله، ومع ذلك لم يتوانى حاخامات اليهود عن إلحاق الأذى بها وبآل عمران، وبعد معارضة شديدة منهم بنى لها النبي زكريا عليه السلام زوج خالتها محرابًا خاصا كي تقيم عبادتها في بيت الله بعيدا، عن أعين المجرمين من أولئك الحاخامات الذين لم يتوانوا لحظة واحدة عن الإساءة إليها وإلى أمها وإلى زكريا عليه السلام، لكن الطهر والقداسة من عند الله عز وجل حين اصطفاها "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًاۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ". (37)
كبُرت مريم في المحراب، وأصبحت في ريعان شبابها صبية يفوح الطهر من ردائها، لكن بني اسرائيل زاد تعنتهم بالإيذاء وزاد كفرهم وبلغت وحشتيهم التراقي حين بدأوا بقطع رؤوس أنصار زكريا عليه السلام كما تفعل داعش وأعوانها اليوم بالشعب السوري ترهيبا وخوفا حتى يتبعون ملّتهم ويكذّبون بما جاء من عند الله من شريعة موسى عليه السلام.
لكن مريم البتول استمرت في محرابها وبقيت في عبادتها رغم فراق أمها التي ارتقت سيدة عظيمة إلى السماء إلى أن ناداها الوحي جبرائيل "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ.
لبّت أمر الوحي الإلهي ودخلت القدس عابدة راكعة ساجدة لله عز وجل، لكن الحاخامات ضربوها وطردوها من بيت الله كما يطردون نساء فلسطين اليوم ويذبحوهن، فعادت حزينة إلى محرابها تذرف دموع الطهارة لكن الله أقدر عليهم " إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46).
اصطفاها الله عز وجل لتكون أما لنبي المحبة عيسى المسيح عليه السلام ليبعثه هاديا ومنذرا لعباده، لكن مريم المقدسة ارتعدت مفاصلها رعبا بعد أن بشرتها الملائكة وسرحت بعيدة "...
إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22).
توارت عن أنظار اليهود لكن وصلت بهم الجرأة لاتهامها وهي مريم المقدسة من نساء أهل الجنة المنزهة عن الخطيئة، مع كل علامات السماء التي كانت تدل على ولادة السيد المسيح عليه السلام "فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25).
وأمرها الله عز وجل بالعودة للقدس تحمل بين ذراعيها المسيح سيد المحبة والسلام، تجمهر الناس حولها لكنها ظلت صائمة عن الكلام كما أمرها الله الرحمن الرحيم وأشارت إلى طفلها قَالُوا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32).
ولد المسيح عليه السلام من البتول المقدسة سيدة نساء أهل الجنة وتكلم فانهار حاخامات اليهود أمام عظمة الخالق، يحمل بين طيات روحه المحبة والسلام فترصعت السماء بالغاديات ورسمت أجمل لوحة سوريالية تهز العالم لولادته من مريم سيدة نساء العالمين نقول في تلك الأيام كل عام والمحبة ترفل بين وطن الياسمين، كل عام وأنتم بخير يا أهل وطني الحبيب بميلاد السيد المسيح عليه السلام.
سورة آل عمران من 37ـ 46
سورة مريم من 16ـ 32