في كتابه هل تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى سياسة خارجية، كتب هنري كيسنجر كبير مهندسي السياسة الأمريكية" أن الثقافة الشعبية الأمريكية اخترقت العالم " والمقصود هنا برامج التلفزيون..اوبرا، ايلن، أمريكان ايدل، دكتور فيل، سمسون وعشرات البرامج والاف الأفلام والمسلسلات غزت العالم وصار الناس هنا في استراليا يستخدمون كلمة "أمركيد" على هذا الغزو الثقافي والذي استند إليه كيسنجر في تحليله للقوة الخارجية لأمريكا.
وينطلق كيسنجر في كتابه ليحلل الرخو والصلب في مفاصل المناطق التي تستهدفها السياسة الأمريكية ونقطة انطلاقه كما أسلفت هو مستوى التأثير الثقافي في تسهيل الاختراق وبسط النفوذ وقد نجح في وضع بصماته على الخرائط ومنها خارطة الشرق الأوسط في المتغيرات وهذا ليس ما أهدف إليه في عمودي المتواضع هذا والذي أريد فيه الحديث عن الانهيار الثقافي والذي نعاني منه منذ 1968 حيث جاء البعث من جديد إلى السلطة بخطاب جديد وبمعاهدة الصداقة مع السوفيت وتأميم النفط والجبهة الوطنية وبيان الحادي عشر من آذار وغيرها فجرف الاعتراض الثقافي وقلصه فباع من باع وطاع من طاع ومن تخلف فإلى الهامش المنبوذ في الداخل أو إلى المنفى، فصارت عناوين الثقافة التحرر الوطني والقومي بدلاً من حرية الفرد والديمقراطية وصار الرمز القومي بديلاً عن الرمز الانساني وصولاً وبالتدريج إلى تجسيد الأيمان بالقائد الضرورة فلم يكتف العراقيون في تمثيل الأيمان المطلوب بوضع صورته على باب البيت بل وصلت إلى غرف النوم، ولم تبق مساحة للنوم من غير صورة القائد الضرورة وتلاشت الفلسفة وصار بيكيت ومسرحيته في انتظار غودو حالة عراقية بامتياز مع فرق بسيط هو أن أبطال بيكيت "العراقيين" صاروا ينتظرون أمريكا .
وجاء الأمريكيون على صدر دباباتهم العمائم السود وجمهرة من جماعة على سبيل الله والوطن وفنادق المخابرات، وتغير مشهد الحيطان والبيوت فأزاح الناس صورة الدكتاتور ليستبدلوها بصور السادة المعممين فكان الفساد وكانت الفوضى وتضاعف التهميش وباع من باع وطاع من طاع، والليل ما عاد ليل بغداد وهذا المتثقف يسمي الأشياء بأسمائها في الحانة وفي الصباح يهرول نحو صحفهم بحجة العيش..!
والقلة القليلة الباقية وسط هذا الانهيار الثقافي سوف لن يكون من حصتها غير إعادة انتاج في انتظار غودو وهذه المرة مع تغيير بسيط فغودو العراقيين سيكون ترامب والذي سيمتنع عن إرسال الثقافة الشعبية الأمريكية إلينا بل المزيد من صوره الناطقة التي ستزين جدران البيوت إلى يوم يبعثون..