الثقافة شاسعة الدلالة فهي طريقة في ممارسة الحياة، وتمتد من يوم الولادة إلى لحظة التحول الأخير، تمر بالرضاعة والحضانة والمدرسة، وتتنفس القواعد والشذوذ، وتتشذب مثل شجرة عند العائلة والمنطقة والشعب فتتكون جراء ذلك التمايزات في الطعام واسلوب تناوله والتقاليد ومسالك توارثها .
ويجري كل ذي صلة من الصحة إلى السلوك في نهر اللغة فهي بيت الكائن والمعادل المسموع أو المقروء، المرئي أو الملموس لأفكاره، لا يختلف الناس على شساعة الثقافة وتداخلاتها، لكنهم يختلفون على صفة المثقف فنراها مهلهلة، تارة نضعها في مساحة الاختصاص بشقيه الإنساني والتطبيقي وتارات نصف بها الأفندي أي أفندي، أو من يكتب خاطرة أو قصيدة وصولاً إلى من رافق الأدباء فصار منهم..
الفقيد علي الوردي فضح هشاشة الثقافة العراقية ولم يكشف سر تلك الهشاشة وكان عمله رائداً في فضح الهشاشة فقد وضعنا هذا الفضح على الحافة فأما السؤال الذي يقود إلى كشف الهوية وأما الهاوية السحيقة وهي التي نتخبط فيها الآن فقد تقرر انسحابنا من الحافة بأذن من مسميات واقعية تقينا مغامرة السؤال في هويتنا.
لا غرابة إذاً أن نكون ملكيين ثم جمهوريين قاسميين ونتحول من أمميين إلى قوميين ومن قوميين إلى شيعة صفويين أو سنة وهابيين، ولا غرابة أيضاً أن يتحول الموصوف "بالمثقف" من أممي بثياب المقاومة الشعبية إلى بعثي بملابس الحرس القومي ومن القومي إلى شيعي تشرق الشمس في عينيه من طهران أو سني لا بديل أمامه غير آل سعود، وعلى هذا المنوال راقب الصحافة والفيس بوك وسترى خارطة التيه العراقي التي يقودها الموصوف "بالمثقف".
لا نستطيع والحال هذه الاقتراب من جان بول سارتر الذي قال أن المثقف موقف ولا من أوكتافيو باث الذي رمى مفاتيح السفارة وقال لا يمكن أن أكون سفيراً لدولة تطلق النار على المحتجين، ولا حتى من أبي حنيفة الذي طالب الفقيه بالاستقلال المالي.
وتبقى حكاية المثقف العراقي الحقيقي في رفضه وفي محاولاته إبلاغ رسالته تذكرني بذلك الحوار بين النسر والغراب.. إذ سأل النسر الغراب، كيف تعيش أنت ثلاثمائة عام وأنا لا أبلغ غير ثلاثين عاماً ؟
فأجابه الغراب، أنت تأكل اللحم الطازج أما أنا فأعيش على النفايات، فقال النسر سأفعل ما تفعل، ومضى الغراب والنسر كلاهما إلى مملكة النفايات، الغراب ينقر ويتلمظ، أما النسر فذاق الجيفة مرة واحدة وحلق بعيداً وهو يقول للغراب.. اسمع يا عم والله لا أستبدل يوماً واحداً من حياتي بثلاثمائة عام من مملكتك هذه.