بين ماهو مطلوب، وقد يكون واجبا، وبين ماهو ممكن في ظل التحديات والمتغيرات صلة وثيقة خاصة في بيئة مضطربة كالبيئة العراقية الواعدة بعد العام 2003 حيث تم نفض ماسبق ومحاولة لترسيخ مفاهيم جديدة في السياسة والثقافة والحياة بشكل عام، وفي شؤون الإقتصاد وبناء مؤسسات الدولة، ولأن الصحافة ووسائل الإعلام من ضمن أهم ركائز تلك المنظومة فقد أخذ دورها يتصاعد، ولأنها لم تعد ضمن دائرة الحكم الشمولي وقهر السلطة وترهيبها فقد تأكد حضورها المختلف والصادم أيضا، وكان منتظرا منها أن تكون داعمة بشكل مباشر للتغيير وبناء مؤسسات البلاد لكن ماحصل هو أنها أصبحت جزءا من منظومات شمولية متسعة وممتدة حيث سلطة القوى السياسية الفاعلة والأحزاب المؤثرة والقوميات والطوائف الحاكمة وصار إعلام الدولة والإعلام الخاص مشتبكين تماما ومتداخلين، وربما شعرنا بنوع من عدم الرضا عن الطريقة التي تدار بها وسائل الإعلام، لكن ذلك ينم عن جهل فاضح بطريقة إدارة الدولة التي تمثلت بمحاصصة كاملة أخذت معها الصحافة ووسائل الإعلام لتكون وسائل دعاية مقيتة لأحزاب وشخصيات وحركات دينية وسياسية وحتى لتجار ورجال أعمال، وربما لمشعوذين ومنهم ( الفتاح فال ) الذي أصبح لديه منظومة إعلامية تستقطب جماعات بشرية وتوفر ضمانات الإستمرار والتأثير والكسب غير المشروع.
نتحدث عن دور ما للصحافة العراقية وللإعلام المرئي والمسموع ولوسائل الإتصال الحديثة في دعم العملية السياسية، وهذا أمر جيد لكن الحديث سيقودنا حتما الى البحث في إمكانية التأثير تلك في ظل نوع التحديات السائد منذ 2003 وحتى اللحظة، ومن غير المعقول القبول بفكرة الإستمرار في النجاح دون توفير ضماناته ( الأمن، السياسة، الإقتصاد) فالصحفيون ووسائل الإعلام وحتى الحزبية منها، وتلك التي نعتقد بأنها قد تلعب دورا سلبيا في تكريس مفاهيم المحاصصة ومكاسب الحزب والطائفة لايمكن أن يؤدوا دورا حين تحتدم التحديات الأمنية والسياسية والإقتصادية كما هو الحال في العراق، ومع عدم الرغبة في دعم حرية التعبير وتوفير ضمانات العمل الحر خارج الضغوط ونوع الإدارات الصحفية البائسة غالبا والتدخل السياسي الفظ فإن وسائل الإعلام لن تكون قادرة على أداء دورها مع كل مايبذله الصحفيون من جهود في هذا السبيل حيث تصطدم بعقبات عديدة تتراكم مع الوقت بسبب الضعف الواضح في منظومة الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والعاجزة حتى عن التعاون مع الصحفيين ووسائل الإعلام حيث تستمر الإنتهاكات والإعتداءت على الطواقم الإعلامية، ويهدد الصحفيون بحياتهم وأمنهم الشخصي، ويمنعون من التغطية الملائمة، بينما تزداد الضغوط الإقتصادية، ويفرض التقشف المر حضوره، وينتهك حرية الصحافة بطريقة بشعة تستهدف الأمن الإقتصادي لمنظومة الإعلام، بينما يزدادا التدخل السياسي حدة، ولاتتوافر لدى القوى الفاعلة لا الرغبة، ولا النية لتغيير مسار العلاقة مع وسائل الإعلام والصحفيين إلا بوصفهم أدوات للدعاية لاأكثر.
وهنا سنعالج ثلاث نقاط أساسية يمكن أن تنهض أو تعطل دور وسائل الإعلام والصحفيين في دعم التغيير والعملية السياسية، وهي عوامل مستمرة طوال السنوات الماضية، وربما سيستمر تأثيرها خلال الفترة المقبلة.
أولا. التهديد الأمني
فقد تعرض الصحفيون العراقيون ووسائل الإعلام الى نوع من التهديد غير مسبوق، وكانت عمليات قتلهم تشبه في توصيفها عمليات الإبادة المنظمة من قبل جماعات العنف المنظم وأثناء المواجهات العسكرية التي حصلت في أوقات صعبة بعد 2003 وكان لها دور كبير وضاغط في تعطيل العمل الصحفي وتحجيم دور الصحفيين والمستقلين منهم خصوصا كذلك الكتاب والذين يمارسون صنوفا إبداعية في العمل الصحفي، عدا عن الإدارات والأشخاص المسؤولين الذين قتلوا في ظروف غامضة وبعضها مكشوف، ومنهم من قتل بدوافع سياسية وطائفية، عدا عن العدد الكبير من الصحفيين الذين قتلوا على يد تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين.
قتل حتى الآن مايزيد على الـ 430 مراسلا ومصورا ومحررا ومخرجا ومساعدا فنيا، وهناك ممن فقد ولايعرف له مصير، عدا عن الذين نزحوا من مناطق سكناهم، والذين يتعرضون الى التخويف والوعيد، والذين تلاحقهم الدعاوي القضائية، والذين يمنعون من الوصول الى أماكن الحدث لمختلف الأسباب، وتفرض عليهم شروط قاسية وإشتراطات من هذا المسؤول أو ذاك ومن جهات سياسية وأمنية في بغداد والمحافظات، وكان للإعتداءات الجسدية دور صادم أدى الى تقييد حريتهم في الحركة، بينما أحتجز عديدون ودمرت أجهزتهم، أو صودرت، وفي حالات أخرى كان نصيب المراسلين والمصورين الضرب والترهيب في الساحات والميادين العامة، ومنهم من كانت التهديدات تصله عبر الفيس بوك، أو عبر هاتفه الشخصي، وقد وصل العشرات من الصحفيين الى أوربا وأمريكا وأستراليا والذين فقدنا الإتصال ببعضهم، وهناك عديد منهم مانزال على تواصل يومي معهم، وبعضهم يعيش ظروفا قاهرة، ويحتاج الى المساعدة الإنسانية، وكذلك توفير فرص عمل، أو موافقات على طلبات لجوء قدموها. في حين ينتظر بعض منهم تسوية قانونية لملفه.
ثانيا. العامل السياسي
وهنا يجري الحديث بالطبع ليس عن سلوكيات سياسيين فردية أو ضغوطات تمارس على هذا الصحفي أو ذلك. لكن الأمر ربما يكون أكثر عمقا بسبب تنوع مصادر التهديد والضغوط، فهناك المزيد من القوانين الداعمة لحرية التعبير والضامنة لها يجب أن يعمل المشرعون عليها من خلال مجلس النواب، ولابد من إجراءات حكومية أكثر جدية، فمعظم جرائم القتل لم يكشف عن مرتكبيها، وكانت التحقيقات تنتهي الى لاشيء للأسف، فالبرلمان صوت على قانون حماية الصحفيين لكن الحكومة لم تعمل على تدعيم إجراءاتها لوقف العنف الذي يمارس ضدهم.
تعتمد أغلب الفصائل السياسية على وسائل إعلام مملوكة لها وممولة منها (صحف، إذاعات، قنوات فضائية، وكالات أنباء) ويكون العاملون فيها غير قادرين على العمل الحر، بل هم منقادون الى سياسة لايمكن الخروج عنها، ويمارس الصحفي فيها دور الرقيب الذاتي لأنه سيفقد عمله بمجرد خروجه على السياسات الموضوعة مسبقا، فالهدف النهائي هو الترويج لمبادئ وسياسات حزبية خاصة قد تصطدم بمناوئين ويكون على الصحفي أن يدافع عن فكرة بعينها ولايمارس الحيادية، أو المهنية العالية ا وان ينفتح على المشهد العام فالهدف هو ليس العملية السياسية بل دور هذا الحزب، أو تلك الحركة في العملية السياسية، أي إن الوسيلة الإعلامية هي وسيلة دعاية فقط، وليست مهتمة بالتنوير الفكري والحضاري ودعم إتجاه عام للدولة، وفي الغالب تصطدم وسائل الإعلام ببعضها، وتكون فاعلة لصالح جهة بعينها.
في تطور لاحق أصبحت وسائل الإعلام ممولة من جهات تنشط طائفيا، أو قوميا، بل وإندمج بعض الصحفيين والإعلاميين مع التوجه العام للجهة الممولة فكانوا أدوات ساهمت في صناعة أزمة، وليس دعما لعملية ديمقراطية ينتظر الناس منها أثرا إيجابيا.
ثالثا. العامل الإقتصادي
مع الفورة الإقتصادية، ونمو حجم الصادرات النفطية، وتوفر موارد مالية هائلة نشطت العديد من الصحف والإذاعات ووكالات الأنباء والقنوات الفضائية التي إستقطبت العديد من المشتغلين في الصحافة حتى مع عدم توفر المهارات الكافية والخبرة وتردي الثقافة العامة لديهم، وكذلك ضعف التدريب الذي تلقوه، ثم أصبح ممكنا أن يعمل خريجو كليات الإعلام في وسائل إعلام غير محترفة، بينما تدار الوسيلة الإعلامية من أشخاص غير مؤهلين، بل يتوفر لهم الدعم السياسي والمادي والتسلطي.
إنعكس ذلك سلبا على واقع الصحافة العراقية والإعلام المحلي. فلم يعد الدور ملائما لطبيعة التحولات، وسرعان ماتغيرت الأوضاع ليعلن العراق إنه بلد يعاني من مشاكل إقتصادية وأخذ الدعم المادي ينحسر رويدا، وبدأت وسائل الإعلام بتسريح المئات من الصحفيين بمختلف الإختصاصات التقنية بحجة ضعف التمويل والتقشف، بينما بقي العديد منهم يعمل برواتب متدنية للغاية، أو يستخدم بعضهم كأدوات رخيصة لإدامة الصراع لقاء أموال، وإنجر العديد منهم ليتعاونوا مع سياسيين ووزراء وبرلمانيين ليكونوا أدوات لهم في حملات الدعاية الإنتخابية، أو مناجزة الخصوم والتشهير بهم عبر وسائل الإعلام، وكل ذلك أدى الى تردي النوع الصحفي وعدم نجاحه في تأكيد دور إيجابي حقيقي داخل المنظومة الثقافية المجتمعية والمساهمة في دعم المؤسسة السياسية.
هذه العوامل وغيرها ساهمت الى حد بعيد في إضعاف دور الصحفيين، وعدم قدرتهم على تقديم العطاء الإيجابي وأداء المهمة الوطنية وإنسحب ذلك على وسائل الإعلام المختلفة ومالم تتغير تلك الظروف الضاغطة فليس ممكنا أن يكون هناك دور إيجابي صانع للتحولات ومشارك فيها.