منذ أولى أصوات اللغة والإنسان يبحث عن معنى، يتحاور - سواء بالأصوات أو بالكلمات - من أجل أن يتعارف، ومن أجل أن ينقل عدواه في البحث والتساؤل الى الآخرين، لكنّه لا يتردّد أيضاً في أن يصغي للتجارب الإنسانية التي عرفت أو حاولت أن تعرف كيف يمكن أن تعيش. الإنسان المنفتح يبحث عن ما يجعل حياته أكثر قيمة وأكثر إنفتاحا.
***
قلت اللغة ولم أقل الكتابة ، فرغم صلة النسب - إنحدرت الكتابة من صُلب اللغة - فإنّ الفجوة الزمنيّة التي بينهما لا يمكن ردمها، بل يمكن بسهولة الحديث عن نوعين من البشر، أحدهما شفاهي الثقافة والحياة يعتمد الذاكرة كحبل سرّي يربطه بالماضي، بينما الآخر يعتمد التدوين والأرشفة ولا يعتمد ذاكرة قد تصاب بالعطب والخرف في أيّ لحظة.
***
ومع هذا فالكتابة لحظة في حياة اللغة، بل هي اللحظة التي انتشلت اللغة من الضياع والإنمحاء .
***
ولأنّ اللغة هي الإنسان، فإنّ الكتابة هي التي أبقت على الإنسان، بل إنتشلته من النسيان. الكتابة جعلت اللغة أكثر سلطة، وأكثر قدرة على النفاذ داخل الزمن، فقد فرشت لها ليس الحاضر فقط بل جعلت سلطتها وقدرتها تمتدّ الى المستقبل .
***
هذه القفزة من اللغة الى الكتابة، من الشفاهية الى التدوين، جعلت التاريخ البشري من الكثافة بحيث لو أنّنا كنّا الى الآن بدون كتابة لكان ما بقي من الماضي لا يتجاوز المائي سنة الماضية أو أبعد قليلاً.
بل لولا التدوين لضاعت الكتب المقدّسة كلّها، أو على أقلّ احتمال تمّ تغييرها جيلاً بعد جيل عبر النقل الشفاهي.
***
أحاول أن أتصوّر العالم بلا كتابة الى الآن، أحاول أن أتصوّر الفراغ الذي يتركه غياب الكتابة في العالم.
هل كان بإمكان العالَم البشري الشفاهي أن يصل الى ما وصل إليه البشر الآن من رقي على الصعيد التقني مثلاً ؟
***
لقد خلق الإنسان العجلة قبل أن يخلق رموز الكتابة الأولى. نعم، كان يمكن أن يصل الإنسان الى بعض الكشوفات والإبتكارات عن طريق النقل الشفاهي، لقد خرج من الكهف وسيطر على النهر بل أصبح سيّداً عليه عبر أنظمة الريّ، بل أسّس المدينة بشوارعها وبيوتها ومعابدها، إلا أنّ الكتابة، أو لحظة التدوين منحته الأجنحة.
***
الشفاهية لحظة بطيئة جداً، الإنسان فيها يكاد أن ينتمي للزواحف، بينما الكتابة هي اللحظة التي امتلك فيها الإنسان القدرة على التحليق .
***
ما ينبغي أن ننتبه له الآن هو اللغة الأعلى التي يتمّ بها تدوين لحظتنا الراهنة ونقلها الى الغد، أفكّر برموز العلماء وإشاراتهم، اللغة المتعالية، أو ما سينجو بعد أن تبهت - الى حدّ التلاشي - بقية اللغات، خصوصاً اللغات التي لم تعد ثقافاتها منتجة لوعي جديد مغاير .