يمكن للقاموس اللغوي الثنائي (عربي - إنجليزي) أن يكون جسراً للعبور من لغة الى أخرى، لكن، وهنا تكمن أعلى درجات العبور، عندما ينتهي الجسر الأوّل، أو يكاد، ونحقّق المرحلة الأولى للعبور، تبدأ مرحلة أخرى لا تقلّ أهميّة بل تتفوّق عليها، مرحلة يتحتّم فيها أن نبحث عن قاموس خاص للغة الجديدة يشرح مفرداتها بلغتها الأصلية أيضاً، كإن يكون قاموس عربي عربي، أو قاموس إنجليزي إنجليزي على سبيل المثال.
***
الوصول الى هذه المرحلة من العبور يعني أن الفرد بدأ يقترب من معرفة فقه اللغة الجديدة، معرفة جذور المفردات فيها، وصلات النسب التي تربط هذه المفردة بتلك، أو ما يسمّى بعلم الإشتقاق، هذا العلم بحدّ ذاته نافذة لمعرفة تشكّل اللغة، وبالتالي فهو نافذة لمعرفة كيفية تشكّل العقل الناطق بها.
***
أن تبحث عن معنى مفردة ما من لغة أخرى عبر الاستعانة بقاموس من نفس اللغة يعني أيضاً أنّك تقترب خطوة من التفكير بنفس اللغة. هذه المرحلة تتجاوز مرحلة الترجمة، لأنّك ستصل الى التفكير من خلال اللغة ذاتها، وليس عبر لغتك الأم أولاً ومن ثمّ ترجمتها.
***
بالتأكيد هذا لا ينحسر على تعلّم لغة أخرى، بل ينبغي أن يكون ممارسة يومية حتى مع اللغة الأم، فالفرد الناطق باللغة العربية مثلا، لا يعني أنّه ليس بحاجة الى قاموس عربي عربي، بل إنّ كتب اللغة، وانا هنا أحاول أن أتذكّر للمثال فقط كتاب "هل العربية منطقية" للأب مرمرجي الدومنيكي، أو كتاب "فلسفة اللغة " لجورجي زيدان، لقد قرأتهما سابقاً، وتتمّ قراءتهما الآن باعتبارهما مباحث في اللغة، لكنّني أراهما الآن يبحثان في منطقية العقل العربي وفلسفته بالدرجة الاساس.
فاللغة هي العقل. إنّ أيّ محاولة في فهم اللغة هي محاولة في فهم العقل.
وأعتقد أنّنا كبشر بحاجة دائمة الى نبش تراب اللغة ووضع العقل الناطق بها على مائدة التشريح، إنّنا بحاجة الى كشف آليات تشكّل ونمو العقل - الديني مثلا - من خلال اللغة.
***
منطقية اللغة هي منطقية العقل الناطق بها، واتّساع مفردات اللغة يشير الى اتّساع العقل الناطق بها، وبالتأكيد فإنّ المفردات لا تتشكّل اعتباطاً ، بل يحدث كلّ شيء ضمن إحتياج إجتماعي ضروري، علينا أن ننتبه الى أنّ اللغة تتّسع باتّساع حياتنا الإجتماعية، وتنمو وتتطوّر مع نمو وتطوّر ممارساتنا الإجتماعية.
***
أستطيع القول هنا، بعد خمسين سنة من إقامتي في الحياة، ما تزال اللغة تثير غوايتي على الغوص في بحرها، وأدرك جيّداً لو أنّني فهمت اللغة حقّاً برموزها وإشاراتها، فإنّني سأقترب من فهم الجدوى التي تغلّف الحياة.