مرّة، في عام ١٩٩٧، نقلتُ لأبي شعوراً سيطر عليّ وأنا أحتضن ولدي (علي) وأمسّد له فروة رأسه فنام، لحظتها تخيّلتني في عمره نائماً في حضن أبي، كان شعوراً دافئاً حميميّاً، لكن المفارقة كانت أنّ أبي قال لي: " عندما كنتَ في الثالثة من العمر كنتَ مكروهاً من قبل الجميع.
حتى أنا لم أكن أحملك.
قلت: لماذا؟
قال: لأنّك كنتَ تسأل كثيراً، بل إنّك كنتَ تسأل عن أشياء تعرفها، وإذا أجابك أحد على سؤالك فإنّه كمن أوقع نفسه في فخّ، لأنّك لن تتوقّف عن سؤاله، كيف، لماذا؟ من؟ متى؟
هكذا تنفتح شهيّتك دون أن تعرف حدّاً.
***
آلمني حقّاً ردّ أبي، لكنّه كشف لي أيضاً جذور قلقي الأولى، وبالتأكيد فإنّ استرجاع ذاكرة تساؤليّة ليس أمراً سهلاً، لأنّ السؤال يتغيّر، ينمو أو ينكمش، لذا من العسير الاحتفاظ بذاكرة حول سؤال طفولي، ومع هذا أجدني أحتفظ بواحدة، لا أذكر السنة أو العمر، لكنّني كنتَ طفلاً، وكنتَ أقف قرب عمي (سعد) الجالس على كرسي في بيتنا في قرية الزهيرات، أسأله عن صورة رجل يرتدي زي رعاة البقر، كان سؤالي عن إسم الشخص، فقال عمّي: إنّه (كاري كوبر).
قلت: نعم فما إسمه؟
قال: كاري كوبر.
قلت : نعم عرفتُ ذلك، فما إسمه؟ قال: كاري كوبر .
***
لا أذكر كيف انتهى الأمر، لا بدّ أنّ عمّي ضجر منّي، لكنّني أذكر إلحاحي في معرفة إسم الشخص، وأذكر جيّداً أنّ عمّي أجابني، لكنّني كنت أعيد السؤال ذاته دون أن أقصد اسم الشخص، بل كنتُ ما معنى اسمه، إلا إنّ طريقة السؤال لم تكن تشير الى ما أقصده، ولأنّني لا أعرف كلمة (معنى) لذا كنت أكرّر كلمة (اسم) بدلاً منها، ولهذا كنت أبدو كما لو أنّني أعيد السؤال، ولهذا كان عمّي يعيد الجواب ذاته، لا أزال أذكر الى الآن أزمتي لحظتها، أريد أن أسأل عن المعنى، لكنّني لا أعرف طريقاً الى السؤال، بل إنّني لم أشكّ للحظة بأنّ سؤالي خطأ، على العكس تماماً، تساءلت يومها: هل يُعقل أنّ عمّي لا يفهم ما أقول؟!
***
هذه الحادثة تصلح أن تكون مفتاحاً لإشكالية الغموض في الكشف عن حالة ما، أو محاولة إيصال فكرة ما، عن طريق إستخدام لغة تبدو، رغم وضوحها، غير مفهومة، وغير قادرة على البوح، أو غير قادرة على التوصيل.
لا نزال نقيم هناك في محدودية لغة الطفل، ولا تزال أسئلتنا تتجاوز اللغة التي نعرفها، أو لعلّها تتجاوز الحدود التي يبدو الخروج منها أو عليها، أمراً لا معقولا، وبالتالي، نبدو - من وجهة نظر الآخر - غامضين، أو لا عقلانيين.