أن تكون حياتك حواراً متّصلاً يعني أنّك تعيش زمناً مُكَثّفاً، يعني أنّك تعيش أكثر من حياة في حياة واحدة.
***
الحوار تقطير تجارب حياتية، الخلاصة المركّزة لعصير فاكهة كثيرة، نافذة مفتوحة الى أفق يمتّد ولا ينتهي، يجعلنا نرى الأشياء ونحتسّسها بأبعادٍ مختلفة، ويجعل الحقيقة، أيّ حقيقة، محض رواية لشاهد واحد، وأنّ الكثير الغامض، المخفي، المتواري، ليس بعيداً عن طُعم سنّارة ما علينا إلا إلقاءها في الماء.
***
قد يكون الحوار تبادل آراء وإنمائها، لكنّه أيضا قد يكون قراءة كتاب، فالقراءة ليست تَلَقٍّ فقط، بل هي مساءلة لمعرفتنا أيضاً، إنّنا نتحاور مع المؤلّف عبر القراءة مثلما نتحاور مع أنفسنا، أن نتوقّف عند جملة أو عبارة يعني أنّ إضافة ما، أو على الأقل صياغة أخرى لشعور جرّبناه لكنّنا لم ننتبه له بهذا الشكل، وقد يكون الحوار إصغاءً فقط لحديثٍ ما، الصمت أثناء الإصغاء ليس صمتاً فقط، بل أنّ جدلاً داخليّاً عنيفاً يحدث مع مترسّبات معرفية سابقة، لا يتحسّس غبار هذا الجدل العنيف إلا صاحب الصمت ذاته.
***
الحوار في النهاية أن لا تقف عند معرفتك باعتبارها المعرفة المطلقة، أنّه برهانٌ ذاتي يشير الى وجودك بين الآخرين، ويجعلك أيضاً تُدرِك قيمة ما وصلت إليه من خبرة حياتية، ويكشف عن الغباء الذي كنّا نظنّه، بل نراه معرفة، الغباء الذي نلتصق به، بل ونكون على استعداد في أحايين كثيرة من أجل أن نُضحّي لأجله.
***
الحوار ليس أن تُفرِط في القول، بل أنّ عمقه الحقيقي يتجلّى في أن تُفرط في الإصغاء، لكن، الإصغاء الذي يفكّك القول ويصل الى اللؤلؤ الدفين.
***
أن نصغي لتجربة الآخر في فهم وإدراك جانب واحد من الحياة، يعني أن نقطف ثماراً لم نشارك في زرع أشجارها.
***
الحوار يجعلنا محظوظين، بل أكثر من ذلك، عندما نقترب من الأصول البعيدة لكلّ ما هو قائم وثابت في حياتنا الإجتماعية، وكأنّه قائم وثابت من الأزل الى الأبد، الحوار يجعل ما يبدو طبيعياً وعقلانياً غير طبيعي وغير عقلاني، يجعل عيوننا أكثر قدرة على الرؤية، ويجعل آذاننا أكثر قابلية على التقاط الأصوات الكامنة، يجعلنا ننتبه لآلية تحرّك الأشياء في العالم كأشخاص وكطبقات إجتماعية ومعرفية.
***
في الحوار كلّ ذلك وأكثر، إنّه يُلقِّن حواسّنا طُرُقاً أخرى على اكتشاف المحيط الزاخر بالأسماء والأشياء، يفتح أبواب الدلالة لكلّ معنى، حتّى يبدو المرئي مضبّباً، لكنّه الضباب الذي يجعلنا أكثر ليونة في التقبّل والفهم والإدراك.