ما يعلق بالذاكرة هو الحياة.
***
أكتب العبارة وأتأمّلها ، تبدو صحيحة إذا كانت القراءة فردية ذاتية، فإنّني أتذكّر اللحظات المهمّة والحاسمة في حياتي، بل يصل التذكّر أحياناً أن أتذكّر يوماً بكلّ أحداثه، بتفاصيله الدقيقة، بتساؤلاتي وأنا أخوض تلك اللحظات أو تلك الأيّام، لكن، ماذا عن حياتي كلّها؟ ماذا عن الأيّام التي لم يبق منها شيء؟ التي اختفت وكأنّها لم تكن! وكأنّني لم أعشها تماماً رغم طولها وثقلها!
***
أعود الى العبارة ثانية، وأحاول إسقاطها على كتابة التاريخ، فأتساءل، هل ما تمّ تدوينه من الأخبار والسِّيَر هو كلّ ما في الماضي من حياة؟
هل ما بقي في الذاكرة التاريخية هو أهم ما كان حقّاً ؟
***
يمكنني أن أقترب من آليّات كتابة التاريخ، لأنّني أرى الآن كيف يتمّ التعامل مع الأحداث اليومية، وكيف يتمّ تصعيد حدث هامشي في اللحظة التي يتمّ فيها السكوت كلّيّاً عن أحداث مهمّة على الصعيد العالمي، أراقب وأتفهّم الآلية التي يجري من خلالها انتقاء أحداث معيّنة والسكوت عن أخرى، أو حتى تشويهها عمداً، أراقب ما يحدث على الصعيد الإعلامي وأفهم أزمة التعامل مع مدوّنات التاريخ، فأكاد أن أؤسّس عبارة ثانية تنصّ على: "أنّ ما بقي من التاريخ ليس هو كلّ شيء، وليس هو أهمّ ما كان حقّاً ".
***
يحدث أحياناً، ربّما تكثر هذه الأحيان، أن أتذكّر - لأمرٍ طارئ - حدثاً لم يكن في الحسبان أنّه بقيَ في الذاكرة، حدث منسي، وهو حين يصعد الى سطح التذكّر لا يأتي وحيداً، بل يجرّ معه أحداث منسيّة أخرى. أي أنّ نشوراً يحدث للحظات ماتت وانسحق رميمها.
هذه القيامة المباغتة، والتي تحدث كثيراً بشكل شخصي تزلزل إمكانية الحسم في المتبقّي، نظلّ الى النهاية لا نعرف ما تمّ خزنه في الذاكرة.
***
ولأنّني أعيش بين آخرين نشترك أحياناً في تأريخنا الشخصي / الجمعي، فإنّ قابلية استرجاع المنسي يبدو أمراً وارداً، بل ومتداولاً بشكل يومي. إذن وجود الآخر نافذة أخرى ومعيناً آخر للذاكرة.
بل أكاد أن أقول: " أنّ وجود الآخر هو قيامة للذاكرة".
***
لكن يبقى السؤال قائماً، فبرغم إضافات التذكّر يبقى هناك الكثير من الأيّام والأحداث التي تمّ نسيانها، ربّما لتكرّرها، أو لعدم أهميّتها، وهذا يجعلنا نعود الى العبارة الأولى لكن مع بعض التدقيق أيضا.
***
قلت أنّ الآخر نافذة للذاكرة الشخصيّة، فكيف يمكن استثمار هذه الإلتفاتة في قراءة التاريخ، كيف يمكن تفكيك صرامة المدوّنة التاريخية باعتبارها الحقيقة كما هي؟ كيف نجعل ذاكرة المدوّنة تنفتح على البوح أيضاً؟ كيف نثير القيامة الكامنة في النصّ؟
***
علينا أن ننتبه الى أنّ الوصول الى الحقيقة المخبّأة في ما وصل إلينا من مدوّنات التاريخ - سواء أكانت كتباً أو بنايات وتماثيل - يتمّ من خلال فهم اللحظة الراهنة وآليات تدوينها، الإقتراب من الصراعات الجانبية التي تحرف اتجاه المجرى، كيف يجلس التافه من الأحداث على عرش الواقع اليومي؟! كيف يعلو صخب وضجيج التفاهات حتى يشغلنا تماماً عن ما هو حقيقي وذي معنى؟! إنتباهتنا للحظة الراهنة هو المفتاح الأساس لتوسيع دائرة التذكّر حتى ضمن أشد مدوّنات التاريخ صرامة.
***
سنجد دائماً، من خلال تفكيك المدوّنات التاريخية، أنّ ثمّة أحداثاً تمّ تهريبها بطرق سريّة وغامضة عبر النصوص.
وما علينا إلا أن نتّقن فنّ اصطياد الحقيقة المسكوت عنها، لكن، العابرة إلينا رغم قساوة الرقابة الرسمية. أن نعي وندرك آليات تهريب الحقيقة، وأن نتجرّأ على القراءة حتى ولو كانت النتائج نسف كلّ ما نعرف.
***
أنتبه الآن الى قراءة أخرى لعبارة: "ما يعلق بالذاكرة هو الحياة"، قراءة تّتفق مع الطرح، لكن بإضافة تنصّ على أنّ: "الباقي كذاكرة يتضمّن المسكوت عنه تماماً"، أي أنّ ما نعتقد أنّه غير موجود أو مغيّب، هو موجود في المتبقّي لكن بضبابيّة تحتاج الى أذهان تّتقن القنص.