بعض التجارب الحياتية، رغم خصوصيّتها، تتكرّر، لكنّها في كلّ مرّة تتزيّا بزيٍّ خاصٍّ جداً، وتحيل الى مثيلاتها، وكأنّنا نعيش تجربتين أو ثلاث في لحظة واحدة، هكذا، نقطف ثمار لذّة من هنا وهناك، وننجرف مع تأمّلاتنا لكلّ ما يحدث معنا، ونكاد ننجرّ لشيء غامض يضحك لنا وعلينا.
***
أتحدّث عن تجربة حصلت معي قبل أسبوع، بينما حصلت شبيهتها معي عام (٢٠٠٥) ، يومها كنت في عمّان. تجربتان توأمان، يفصل ما بينهما أكثر من عشر سنين كاملة الدسم.
***
التجربتان حصلتا برفقة كتابين، كان الأوّل كتاب (الحيوان) للجاحظ، بينما كانت الثانية برفقة كتاب (الأصمعي: حياته وآثاره) لعبد الجبار الجومَرد، في الأولى كانت نسخة كتاب الحيوان مطبوعة في مصر عام (١٩٠٥)، وكنت اشتريت النسخة عام (٢٠٠٥) أي في الذكرى المئوية لطباعتها، وكانت المفاجأة أن أكون القارئ الأوّل للنسخة، بعد أن فتحت صفحاتها المتّصلة بسكّين.
***
وكما قلت، كانت نسخة كتاب (الحيوان) مطبوعة في مصر وهاجرت الى الأردن، وكنت انا أيضاً مهاجراً من العراق الى الأردن، والتقى الغريبان على أمرٍ قد قُدِر .
***
في تجربتي الجديدة ضفرتُ بنسخة من كتاب( الأصمعي: حياته وآثاره ) مطبوعة في بيروت عام (١٩٥٥)، وكانت قد وصلت مشحونة مع مكتبة شخصية لقارئ عراقي يقيم في أمريكا، تجاوز عمره الثمانين كما قيل لي، أي أنّ الكتاب هاجر من لبنان الى العراق ثم الى أمريكا ومن بعدها الى أستراليا، وصادف أنّني اقتنيت الكتاب لتحدث المفاجأة ثانية، أن أكون القارئ الأوّل للنسخة بعد ستين عاماً، لكنّني هذه المرّة استخدمت هوية الطالب في فتح صفحاتها المتّصلة.
***
قرأتُ نسخة كتاب (الحيوان) على جبل القصور في عمّان ، بينما قرأتُ نسخة كتاب (الأصمعي) في كابرماتا وعلى صخور ساحل گاري.
***
لا أزال أذكر نشوة فتح الصفحات المتّصلة، وكأنّني أحرث أرضاً بِكراً ، نشوة لا تكفّ عن الدهشة دهشة التساؤل، لقد كنت أفتح نسخة كتاب (الحيوان) وكأنّني حصلتُ عليها توّاً من المطبعة، وكأنّني كنتُ أقيم هناك عام (١٩٠٥)، تماماً كما عشت مع نسخة كتاب ( الأصمعي) وكانّني كنت هناك عام (١٩٥٥)، أقرأ وأتذكّر التفاصيل، وأحدّق في ذات الآن بأولادي علي وبلاد وهما يتسلّقان جبلاً مُشرفاً على ساحل گاري، كان خلط التفاصيل مذهلاً، الحاضر والماضي، الماضي الحي عبر نسخة كتاب تفتح نوافذها الآن فقط كي تعلن عن حضورها.
***
وإذا كانت تجربتي مع كتاب (الحيوان) مقتصرة على هجرة داخل بلدان عربية (العراق، مصر، الأردن)، فإنّ تجربة كتاب (الأصمعي) إنفتحت لتكون هجرة الى قارّات، لقد طُبع الكتاب في قارّة آسيا، وهاجر الى قارّة أمريكا، ثمّ الى قارّة أستراليا.
لا أزال وأنا البعيد قارّات ومحيطات عن العراق، أقول لا أزال قادراً وأنا هنا على فتح نسخ طُبعت هناك وفي أزمنة إنقرض أهلها، نُسخٍ لم تر النور بعد، تبحث عن ضالّتها، هكذا، الكتاب يبحث عن قارئه، ولا أدري من هاجر ليلتقي بالآخر ، أنا أم الكتاب؟
***
كنت أراقب علياً وبلاداً وهما يتسلّقان الجبل، ثمّ حصل أيضاً ما جعلني أمتلئ نشوة ودهشة ولذّة. في اللحظة التي كان يتسلّق أولادي الجبل، كان القمر وبسرّية هائلة يتسلّق الجبل ذاته من الجهة الأخرى، كنت أراقب القمّة، وإذا بالقمر يُخرج جبهته، بدا متّصلاً بالقمّة، ثمّ بدأ يصعد، ثمّ انفصل عن الجبل، وتسلّق السماء، قلتُ لبشرى وكانت تراقب الأولاد أيضا: أنظري الى القمر، أنظري الى الفخّ الذي نحن فيه.
دفعتها دهشتها لأرشفة اللحظة كلّها، كان صعود القمر إشارة لدوران الأرض، ولجريان الوقت، كان الحاضر والماضي يمضيان معاً، القمر إنتشلني من هناك، من الماضي ليرميني وجهاً لوجه مع السيلان.