كم هو مؤذٍ هذا العنوان، مؤذٍ لأنّه حقيقي جدّاً، ولكنّنا أدمنّا الابتعاد عن الحقيقة منذ اللحظة التي أدمنا فيها التعلّق بالوهم.
***
لا تزال نضارة مارلين مونرو تحرّك فينا رماد أحاسيس ومشاعر نائمة، تستفزّنا بخفّة ضحكتها ودلعها، بلمعة الضوء في العينين، بغنجها، بتأوّهاتها التي تصل إلينا حتى عبر صورها الصامتة.
مارلين إعجاز الطبيعة في خلق إله، إله مثل ريح تشغل العقول بوقع خطواتها على الوقت. ها أنا أتغزّل بانعكاس وجودها، بصداها، أتغزّل بما انسكب من حبر في وصفها أو في التحدّث عن مغامراتها، ثمّة غواية في كلّ كلمة كُتِبتْ عنها، غواية حياة، غواية عشق للحياة أيضاً، لقد كانت مارلين غصناً تَرِفاً بضّاً تجلّت فيه الحياة كما لو أنّها كانت تنافس ذاتها في الخلق.
***
ومثل ريح عاصفة، اخترقت مارلين الحياة كلّها، وكأنّها أقرّت بقاءها الأبدي، البقاء الذي يصفع الذهاب، يكبّله ويربطه بأسفل القدم كظلّ تابع.
***
لقد مضى أكثر من خمسين عاماً على رحيلها، إنّها توشك الآن أن تطرق باب التسعين من العمر، لكنّها في التسعين بكامل بهائها وأنوثتها، بل بكامل خفّتها وغنجها، إمرأة وجِدَت لتبقى.
***
ولكنّني أقف على الضفة الأخرى من النهر، تحت التراب تماماً، هناك، حيث يعود الحيّ الى عناصره الأولى.
***
أريد أن أقول: لقد كان الإنسان خالقاً حين انتبه الى عملية الدفن.
الدفنُ قتلَ الموتَ، إنّنا ونحن ندفن الموتى نحاول إبقاءهم على قيد الحياة، نحاول الحفاظ على وجودهم الأخير، شكلهم، سماتهم، نحنّط أجسادهم بالعطر ليكونوا أكثر حياة وهم موتى، لقد كان الإنسان خالقاً حين إنتبه لطقوس الحنوط، غسل الميّت، تقليم أظافره، تعطيره، إنّه يحيط الميّت بأرقى رتب التحضّر، الى اللحظة الأخيرة لن يكون الميت ميتاً بل حيّاً، وكأنّ الموتى يُدْفَنون أحياءً ليس إلا، وكأنّ الأحياء يمنحونهم مكاناً آخر عبر الدفن، يمكن أن يكون أيّ شيء إلا الفناء.
***
الشكل الأخير للميت يرسخ في الأذهان الى النهاية.
لقد كان خالقاً ذلك الذي إنتبه لضرورة الدفن أوّل مرّة.
لقد منح الموتى حياة أخرى، حياة لا تنتهي بالتعفّن والتفسّخ والتلاشي، الدفن إدامة للجسد - كما هو - في الذاكرة، سنقول ماتت مارلين مونرو، وستصعد صور الأناقة والفرح والحبّ والإثارة، نذكر موتها ولا نذكر تحوّلات الجسد بعد الموت، لا أحد يفكّر بتفكّك الجسد البضّ الى عناصره الأولى، لقد كان القبر حاجزاً فاصلاً بين وجودنا وذهابها، القبر الذي ينتصب بصرامة قاسية كي لا يجعلنا نقترب من الحقيقة المهولة، إنّنا لا تجرؤ على أن نرى مارلين مونرو وقد استحالت تراباً، لأنّنا لا نجرؤ ولا نقوى على تصوّر أقربائنا - آبائنا، أمّهاتنا، المقرّبين إلينا - وقد عادوا ترابا.