ذات مرّة، وكنت حضرت أمسية غناء لفرقة كوبية في جامعة سيدني برفقة بعض الأصدقاء، عراقيين، وإيرانين، وإسبان، كانت الفرقة مجهّزة بآلات عزف شعبية تشبه تماماً فرقة يوسف عمر وشعّوبي، وتخيّلتها ستغنّي مقاماً، ثمّ، وبعد أغانٍ يسيل منها دبق الفلامنكو، بدأت الفرقة تغنّي أغنية صاخبة، حتى أنّ أكثر الحضور الأسترالي قام ليساهم في رقصة كأنّها طقس إحتفالي، كانت الأغنية باللغة الإسبانية، حفظتُ الجملة التي تكرّرت كثيراً: "ميشيل متي مورو"، سألتُ صديقتنا ذات الجذر الإسباني عن معنى الجملة فقالت ضاحكة: "الأغنية مشهورة جدّاً كفلكلور إسباني، والإسبان يسمّون المغاربة مورو، ومورو تعني العرب، والجملة هنا تعني ميشيل قاتل العرب"، قلت لها: لحسن الحظ أنّهم لا يعرفون أنّ هناك عرباً في القاعة.
***
الذي أحيا هذه الحادثة في ذاكرتي أنّني حضرتُ برفقة بشرى عرساً مندائيّاً في سيدني أيضاً، كان منظّم (الدي جي) بارعاً في اختيار أغانٍ عراقية حديثة ذات موسيقى صاخبة تحثّ على الرقص، حتّى أنّنا رقصنا على صخب العديد منها، الملفت في الأمر أنّ أغلب كلمات الأغاني، وأكاد أقول كلّها كانت على منوال جملة "ميشيل قاتل العرب"، بل إنّها ذكّرتني بمعلّقة عمرو بن كلثوم التي يطفح منها الضمير (نحن) ليحتل الفضاء.
كانت الأغاني تتحدّث عن عنفواننا وقدرتنا على سحق ودحر الخصم، وأنّنا من الدقّة بحيث نستطيع أن نزرع الرصاصة في جبهته، وأنّ بإمكاننا أن نعيد الخصم الى بطن أمّه، وأن نُغلق موضوعه تماماً، أو أنّنا نقطع لسان من يتحدّث عنا.
كان العنف طاغٍ على كلمات الأغاني، وكانت الألحان وكأنّها عراضات جنوبية، فكلّ هذا العنف كان يصاحبه ردح جنوبي، وبالتأكيد فإنّ منظّم (الدي جي) لم يقتصر على أغانٍ حديثة، بل وضع أغنية "يا كاع ترابك كافوري"، وأغانٍ عربية منها "كلنا العراق".
كنت أرقص مع الجميع وأفكّر جدّيّاً في أنّنا جميعاً شرقاً وغرباً بحاجة الى أطبّاء نفسانيين.
***
عندما بدأت أغنية (حسين الجسمي) "كلنا العراق" كان عدد كبير من الحضور قد نزل الى صالة الرقص، لكنّني رأيت الفرح مشوباً بلمعان العيون وهي تحبس انفعال عاطفة توشك أن تنهمر، لم يكن حنينا بقدر ما كان شعوراً بالفقدان، الفقدان الذي يجعل الجميع يرقصون على الحافّة، حتى ولو كان الرقص على وقع أغانٍ حماسيّة أو أغانٍ حربية، حتى ولو كانت الأغاني إبنة الحروب التي أكلت أعمارنا، وبعثرتنا على قارّات العالم.
***
شيء من الفانطازيا، أن تكره وأن تحب الشيء ذاته في نفس الوقت، فلا أنت تستطيع أن تحيا معه، ولا أنت تستطيع أن تحيا بدونه، تركيبة نفسية عجيبة، معقّدة.
كنتُ أرقص بين الجميع وأنا متعاطف معهم جميعاً، غير منحاز للحزن ولا حتى للفرح، بدا لي أنّ الأمر طبيعياً، وكان عليّ أن أستوعب هذا التضاد الإنفعالي الصادق، صادقون في الفرح، صادقون في النزف، فرح نازف، ترى ضحكاً عميقاً، لكنّه ضحكٌ إستنكاري، ضحكٌ يكاد أن يصيح: "هل يُعقل أن نرقص بهذا الحماس مع هكذا غناء دموي عنيف؟"، وتكاد تسمعهم أيضا يصيحون من أعماقهم: "نريد أن نرقص، نريد أن نفرح".
لقد رأيت وسمعت كلّ ذلك حقّاً، رأيتُ الرغبة في الحياة تتجاوز الحزن، بل رأيت الحياة بكلّ عنفوانها تجرّ الحزن من يده الى صالة الرقص، رأيت الحزن يرقص عبر لمعان العيون واحمرارها، كان يرقص، لكن برغم أنفه.