أذكر وأنا طفل كانت تشدّني رؤية منظّفي الشوارع في القرية. كانوا إثنين أو ثلاثة أشخاص، بصحبة كلّ منظفٍ حمارٌ حكومي، كان الحمار يومها الوسيلة لنقل القمامة، وعادة ما كان يتمّ إخراج القمامة من داخل القرية الى خارجها حيث تكون هناك ساحات مكشوفة بلا صاحب، أي أراضٍ حكوميّة غير مستثمرة حتّى ذلك الحين. ولا أدري إن كان يتمّ نقل القمامة من هناك الى أماكن أخرى لاحقا.
***
لا أزال أذكر بعض وجوه المنظّفين وهم كبار في السنّ. كانت جدّتي ترسل لهم الماء في ظهاري الصيف الحارّة عندما يمرّ أحدهم بالقرب من بيت جدّي، وغالباً ما كنتُ أنا رسولها إليهم.
***
قلت: منظّف برفقة حمار حكومي، فقد كان يُخَصّصُ للحمار راتب شهري أسوةً بالعامل المرافق، كإن يُصرف له أجور معيشة، تدبير العلف، إضافة الى تلبية احتياجاته الأخرى لإداء العمل. الحمار مثال صارخ لمن يعمل فقط بأكل بطنه، وهو ما يسمّى في اللغة الفصحى: عَضروطاً. أن تعيش لتعمل فقط، لا نافذة للراحة أو للإستمتاع .
***
كنّا أطفالاً نلعب الكرة في الدرابين، منشغلين عن صراعات اليسار واليمين، بينما يمرّ أحد المنظّفين ليجمع القمامة من أماكن تكاد تكون محدّدة، رغم أنّها ليست كذلك، فبالقرب من باب أي بيت قد يجد عامل النظافة كدس قمامة أو أكداساً متراكمة، لطالما رأيتُ هذا المشهد، رجل كبير في السنّ، هل لأنّني كنتُ طفلاً أراه - الى الآن - طاعناً في السنّ؟ أراه تَعِبا، يتصبّب عرقاً، ولا أرى بسمة على الوجه، ثمّة هدوء عجيب، كأنّه هدوء اليأس، اليأس من نظافة الشارع ما دام مأهولاً، أو كأنّ وجوده يقول: لا حياة بوجود الآخر .
***
كان الناس يتعاطفون مع المنظّفين، فهم مألوفون لديهم، لقد كانوا مألوفين لي وأنا طفل، أراهم بشكلٍ يومي، وتكرّر رؤية الوجه هو بحدّ ذاته صلة نسب، وكنتُ حين أوصل الماء الى أحدهم، أظلّ واقفاً بالقرب منه أنتظر استعادة طاسة الفافون، كنت أراقبه وهو يشرب أو وهو يغسل وجهه بالماء، أراقبُ تجاعيد جبهته، أراقب الحزن الذي تبوح به تضاريس الوجه، أناس فقراء طيّبون أكثر مما يجب، إلا أنّ أساطيل الحياة كانت تمخر على سماتهم بكلّ ثقلها وجبروتها.
***
غرباء كانوا يجيئون على حميرهم من خارج القرية، لكنّهم ليسوا غرباء أبداً، فوجوههم أكثر ألفة أحياناً من كثير من وجوه أهل القرية، ومع هذا ترى انطواء أحدهم على نفسه الى حدّ أن يعبر الشارع دون أن ينطق كلمة أو حرفاً إلا وهو يحاور حماره دافعاً إيّاه الى الحركة أو الى التوقّف.
***
أفكّر الآن في حياة أولئك البشر الذين قضوا سنوات وجودهم على الأرض وهم يحاولون قدر ما استطاعوا أن يقوموا بفعلٍ ما ينفعهم وينفع الآخرين، لقد كانوا إيجابيين تجاه الحياة، لكن، هل كانوا إيجابيين تجاه أنفسهم؟
***
هذا الذي دخل وخرج دون أن يثير إلتباساً، دون أن يكون حافزاً على القلق، لم يكن نافذة للشكّ، ولم يكن مريباً، كان غريباً، جاء ورحل غريباً، أقف مذهولاً أمام هذا الوجود الغريب، لم يكن وجوداً فائضاً، بل على العكس، لقد ملأ مكانه تماماً، كانت الحياة بحاجة إليه، لكنّه كان طيّعاً أكثر مما يجب.
***
المنظّف وحماره ينفردان بعيداً عن صخب الحياة اليومية، بعيداً عن صراعات اليمين واليسار، بعيداً عن صراعات الطوائف والعشائر والأحزاب، غير معنيين إلا بفضلات الجميع المتكدّسة على الأبواب.
***
هكذا، يقف شخص برفقة حماره أمام بيتك ليقول لك وبوضوح صارخ:
لا يعنيني منك سوى قمامتك.
***
أتخيّل مُنَظِّفاً هائلاً يأتي مع الفجر ليأخذ قمامة الأرض كلّها ويُلقيها بعيداً على كواكب أو مجاميع شمسيّة أخرى.