أن تكون موجوداً في عالم غامض محاط بالأسرار، وتعرف أيضاً أنّ كلّ حوار تقيمه - مع آخرٍ يحمل نفس الهمِّ حتّى وإن كان على ضفة أخرى - هو في جوهره تعميق لهذا الغموض، وتوسيع للفجوة الفاصلة بين أن تتقبّل الأشياء كما هي في الظاهر، وبين أن تُقيم وحيداً - أو برفقة أشباهك الذين يندرون - قرب الجدل الخفي الذي تتحرّك به الأشياء ذاتها.
***
كلّ حوار هو نافذة للإقتراب من المعنى الخفي، المعنى المسكوت عنه، الوجه الآخر لحقيقة الواقع اليومي المهادن المتواطئ.
الحوار يجعل ضباب الغموض أقلّ كثافة، رغم أنّه قد يفتح باب متاهة جديدة، لأنّ المعرفة وهي تقود، ربّما تقود الى متاهةٍ أخرى، أو الى غموضٍ آخر. إنّنا نتّجه، لكن ليس الى جهةٍ بعينها.
***
وبالتأكيد فإنّ الحوار هو العين التي لا تُكرّر صورة الأشياء كما تبدو، بل هو العين التي تجعلنا نرى الأشياء كما هي أصلا.
الحوار هو العين التي ترى المنطقة العمياء للمرآة الجانبية، هو المعول الذي يضرب بشدّة الحجر المتراكم على الجوهر الدفين، هو كلّ ما يمكن أن يجعلك تنتبه للفخّ الذي أنت فيه.
***
وتعرف بحكم التجربة أنّ البعض لا يريد أن يعرف أكثر مما وصل إليه، هكذا، يُطفئ عقله ووعيه ويستغرق في نومٍ عميق مفتوح العينين. لا يريد الإنشغال بالحصول على معنىً مغايراً خارج ما وصل إليه، أقول: "وصل إليه" ولا أقصد ما توصّل إليه بنفسه، هذا البعض يكتفي بما تمّ تلقينه إيّاه، ولا يريد أن يشغل نفسه بأمور يعتقد أنّها لن تقدّم له شيئا، إن لم تسلبه الطمأنينة التي هو فيها. أقول البعض وأقصد الأغلبية الساحقة.
***
على الجانب الآخر هناك من يحاول أن يستثمر كلّ لحظة في وجوده ليتعرّف على السرِّ الذي يحيط بوجوده في الحياة، هذا الذي يرى نفسه عالقاً بشبكة عنكبوت غريب، عنكبوت ضخم جدّاً يدور حوله ليلفّه بلعابه الى مقبرة قادمة، ولعلّي من المحظوظين الذين يعثرون بين فترة وأخرى على كائنٍ من هؤلاء، والجميل أن يكون هذا الكائن منشغلاً على ضفة أخرى وفي اتّجاه آخر، إلا أنّ النتيجة تظلّ واحدة، نعاني من عناكب مختلفة، ونبحث في الوقت ذاته عن الحقيقة خارج المتاح الزائف الكاذب المتواطئ.
***
الإشتراك في الهمّ يقود الى تبنّي حياة أخرى، حياة قائمة على المكاشفة والوضوح، فأن تجد نفسك في عالم يُغَلِّف نفسه بقشور البصل فإنّ أوّل ما يتطلّب منك هو إزالة هذه القشور والإبتعاد عن روائحها، لأنّها إن لم تكن مقرفة أو مقزّزة، فإنّها مسيلة لدمع كثير .
***
ولكي تصل الى معنىً آخر فإنّ هذا يتطلّب أيضاً أن تبتعد عن كثير من العلاقات الإجتماعية الإستهلاكية، علاقات لا جدوى منها، ليس على الصعيد الفكري فقط، بل على الصعيد الإنساني أيضا. علينا أن ننتبه الى أنّ وعي الفرد هو إشارة صريحة وواضحة الى رتبته الإنسانية التي بلغ.
***
لقد كانت ليلة للتساؤل والبوح، كنت برفقة (بشرى) نتجوّل معاً، تدفعنا الرغبة في رؤية الحميميّة وهي تخفق بجناحيها على الأفق، كنّا نتجوّل بين إبتهاج أناسٍ كثيرين في القاعة التي أقيم فيها اليوم المندائي في منطقة ليفربول، عندما إلتقينا (الترميذا يوهانا)، واتّفقنا على أن نكمل ليلتنا وحوارنا على ساحل (ستانويل بارك)، برفقة الصديقة (شهرزاد الحيدر) والباحثة النرويجية (السيدة باكلي) ليكون الحوار أكثر دسامة.
كان المناخ دافئاً وحميماً أسوة برغبتنا على فتح حوار يتطرّق الى بعض الأسرار والألغاز .
***
عوالم مختلفة، بميول واتّجاهات دينية ولا دينية، يقودها حسٌّ إنساني متلهّف لعالمٍ أفضل. عوالم منشغلة بتتبّع الحقيقة، أو ملاحقة ما بقي منها، أو التنقيب عن ما تمّ تهريبه عبر الإستعارة والمجاز.
عوالم تحاول أن تساهم في حركة التغيير المدني، إنتشال ما يمكن إنتشاله، وفتح نوافذ هنا وهناك لحياة أكثر عمقاً وأكثر انفتاحا.
لغات عديدة، فقط لجعل الحوار أكثر وضوحاً، دون أن ننسى أنّنا نستخدم قراءتنا الشخصيّة التي هي نتاج تجربتنا في معرفة ما عرفنا، أي أن نعي نسبيّة الطرح دون يقين. وهذا ما جعل حديثنا ليّنا هادئاً بلا انفعال أو تزمّت.
***
كانت (شهرزاد الحيدر) بحسّها الإجتماعي النبيل تعتني بضيفة المندائيين السيدة ( باكلي)، بعد أن سبقتانا الى الساحل وجلستا على أطراف الموج عندما وصلنا (بشرى والترميذا وأنا) قرابة الثانية عشر ليلا.
***
بدأ (الترميذا يوهانا) حديثه مع (السيدة باكلي )عن قلق وإشكالية الشاب العراقي اليهودي ذو الجذور المندائية في بحثه عن الهوية، وكيف أنّ الترميذا حسم الموقف بالقول: "شعورك الداخلي هو هويّتك"، لأنّ من يقرّر الهويّة هو صاحب الشأن ذاته وليس الآخر.
***
كنت أُصغي لحديث الترميذا، وأراقب تتابع الأمواج، فالموجة تأتي لتنتهي قرب أقدامنا، ثمّ تأتي موجة أخرى لتغطّي ما سبقها.
لكلّ موجة بصمتها على الساحل، بصمة تمحو ما قبلها، لكنّها تكشف في ذات الوقت أنّ المحيط هو عدد هائل من الطبقات الموجيّة المتراكمة.
قلت: هذه الأمواج تكشف الحقيقة السرّيّة للأديان، فلكي نصل الى معرفةٍ ما بخصوص أيّ نصّ، علينا أن نعرف اللحظة التي أنتجت النصّ، أو اللحظة التي أنتجت قراءته، لأنّ ما وصل إلينا هو نتاج قراءات وتأويلات قد تكون بأكملها الضفة النقيض للأصل.
***
ثمّ تناسل الحوار.