دخلتُ الى المسرح وكأنّني أدخل الى غرفة تعرّضت لعملية سطو، فالحقائب مفتوحة، وصناديق كأنّها أثاث قديم، وثياب ولعب وتفاصيل أخرى مبعثرة على الارض ، فتهيأت نفسيّاً الى سماع حوار داخلي عن سرقة تمّت في لحظة ما وترك اللصّ - أو اللصوص - ما بقي مبعثراً بفوضى غامضة.
***
كانت الصدمة الأولى، أن يبدأ عرض مسرحية (الخط الأحمر) بامرأتين مستلقيتين بين الأنقاض، تنوح كلّ واحدة منهما بمعزل عن الأخرى، فتنتبهان لبعضهما ، لنعرف أنّهما - فقط - كلّ من بقي سالماً من سفينة تحطمت وغرقت، وأنّنا كجمهور نجلس أمام محيط تطفو على أمواجه الحقائب المفتوحة والصناديق والثياب واللعب والأوراق ووو .
***
كانت فرحة (بتول) -التي قامت بإداء دورها الفنانة (فريال الخميسي) - أكبر من أن توصف حين عرفت أنّ إنساناً آخر لايزال حيّاً أيضاً بالقرب منها ، وأنّها لن تموت وحيدة في عتمة المحيط، كانت (ماجدة) التي تقمّصت شخصيّتها الفنانة (فاطمة الوادي) تئنّ هي أيضاً ، وكان أنينها نافذة العثور عليها.
كانت ذروة اللقاء أن تطلب بتول من ماجدة أن تقترب منها كثيراً فهي لا تريد أن تواجه الموت وحيدة في خضم محيط إبتلع السفينة ومن عليها، كان التساؤل المرير يتجلّى في لماذا بقيتُ على قيد الحياة وقد مات الآخرون؟
لماذا لم أمت معهم؟
ما جدوى بقائي وحيدة؟ هنا تصعد النجاة الى مرتبة أن تكون هي الكارثة .
***
ثمٌ ينفتح باب السرد، فكلّ ناجٍ هو كارثة يمكن روايتها، وهنا نبدأ بالإصغاء لماجدة الممرضة التي تمّ اتهامها بعلاقة غير شرعية فاضطرت أن تهرب من خنجر أخيها (غيلان) بعد أن تحوّلت كرامتها الى ورم تحمله كحدبة، هربت من الموت لتجد نفسها في لبة الموت بعد أن غرقت السفينة وغرق كلّ من عليها سواها وسوى بتول .
***
هنا تجسّد ذكاء المخرج وكاتب النصّ المبدع ( عباس الحربي)، فبدلاً من أن تكتفي الشخصيّتان بسرد قصّتيهما، بدأتا بتقمّص الشخصيّة ونقيضها، وكان علينا كجمهور أن نركض في انتباهنا بسرعة ظهور الشخصيّات واختفائها، بدأ إنهمار الشخصيّات عندما وجدنا الممرضة ماجدة مع ممرضة أخرى - تقمّصتها فريال الخميسي - تّتهمها مع الجندي ، ثمّ نرى ماجدة مع الجندي المبتور الساق في الحرب وقد تقمّصته فريال، ثمّ نرى ماجدة مع أخيها غيلان الذي تقمّصته فريال الخميسي أيضا.
***
ثمّ يأتي دور بتول لتروي قصّتها ، فنراها ( معلّمة ) تتجنّب الخوض في أمور السياسة، ونرى فاطمة العبيدي وقد تقمّصت دور (الفرّاشة)، ثمّ نعرف أن زوج بتول ضابط تمكّن من أسر جماعة إرهابية، وهنا تقمّصت فاطمة العبيدي شخصيّة الضابط، ثمّ دخلت شخصيّة الجندي السمسار الذي - تقمّصته فريال الخميسي - يعرض عشرة الاف دولار عن إطلاق سراح كلّ ارهابي من الأسر، فلمّا يُجابه بالرفض من قبل زوج بتول، نرى الجندي السمسار يلجأ الى قائد عسكري برتبة أعلى تتقمّص شخصيّته فاطمة العبيدي، فيتمّ إطلاق سراح الإرهابيين، ويكتب على بوابة بيت بتول (بيت الخونة) ، فيضطرّوا الى هجرة العراق بحثاً عن بلاد آمنة .
***
هذا الكمّ الغفير من الشخصيّات تمّ اختزاله عبر ممثلتين فقط، يمكنني القول هنا أنّ الفنان (عباس الحربي) كان بارعاً في ضرب عصافير عديدة بحجر واحد، فقد تخلّص من فخّ الروي بتقمّص الشخصيّات، واختزل الشخصيات كلّها بممثّلتين فقط، فجعلنا نقف على القدرة الابداعية التي تفجّرت على المسرح للفنانتين المبدعتين فريال الخميسي وفاطمة العبيدي، لقد أثبتتا بحق إنّهما تتمتّعان بقدرات هائلة على تقمّص شخصيّات متضاربة ومتناقضة، لقد أبدعتا حقّاً في جعل الجمهور مشدوداً ومراقباً للأصوات التي تنبثق مع كلّ مشهد، لقد كنتُ هناك بين الجمهور أصغي وأراقب هذا الزخم المتدفّق من الأصوات منبهراً بعفوية فاطمة العبيدي وفريال الخميسي على الدخول في ثياب شخصيّات تطارد بعضها بعضا .
***
وكما قلت فإنّ الدخول الى المسرح كان صفعة بصرية، وقد انتهى العمل المسرحي بصفعة بصرية أخرى، لقد كان (منير العبيدي) مبدعاً في اختيار مفردات سينوغرافيا المسرح، وقد تجسّد الانفتاح الدلالي لمفردات العرض في استثمار العباءة على سبيل المثال باعتبارها عباءة مرّة، ثم تحوّلت الى موجة سوداء مرّة أخرى، ثمّ تحوّلت العباءة الى كفن أسود في نهاية العرض المسرحي.
***
لقد تناول النصّ المسرحي موضوعة التحوّلات الصادمة التي طرأت على المفاهيم الأخلاقية ، كما تناول أيضاً موضوعة المصائر المُحطّمة التي تحاول النجاة من الموت لتجد نفسها وقد دخلت في فمّ الموت . أشهد أنّني شاهدت عرضاً مسرحياً مذهلاً .