تولد فتجد نفسك محشوراً في عائلة، محشوراً في طائفة، محشوراً في دين، محشوراً في قومية، محشوراً في لغة، محشوراً في وطن، محشوراً في أُمّة، محشوراً في كوكب، محشوراً في كون، ثمّ يخرج إليك عُمْيٌ صُمٌّ بُكْمٌ يُهدّدونَك بالحشر، وكأنّك في كابوس الحشر منذ اللحظة الأولى الى آخر لحظة لتحلّل الجسد وفناء الكوكب؟!
وتتساءل هل هذه حياة أم مكيدة؟
هل هو فخٌّ ونحن فيه منذ الأزل والى الأبد؟
وما الأزل وما الأبد؟
***
لفرط الإنحشارات أصبحت الناس تتلذّذ بها، ألم يقولوا: "حشر مع الناس عيد"؟!
إنّها ثقافة التلذّذ بفقدان الذات، ثقافة التلذّذ بفقدان الخصوصيّة، ثقافة التلذّذ بفقدان المعنى وبفقدان الجدوى من الوجود.
ثقافة اللا قيمة لأيّ شيء، بل ليس هناك أيّ شيء، فالكلّ باطل وقبض الريح.
***
لا تجلس بعيداً ووحيدا، لا تصمت، لا تتأمّل، لا تغرق في ذاتك، لا تُصغي لصوتك الداخلي، إغلق أذنيك لكلّ سؤالٍ خارج المدى المتاح، لا تسأل، كن مثلنا، كن مثلنا تماماً، بريئاً من ذاتك.
هذه ثقافة الحشر مع الناس عيد.
***
وليس هذا فقط، بل أنّ ثقافة الحشر دافعٌ ليحشر الناس أنفسهم في ما ليس لهم فيه شأن.
وكأنّها تهبهم الحقّ في أن يُعَكِّروا عليك صفاءك الداخلي، هكذا يتسلّلون إليك من الشبابيك، ومن أضيق المسامات في الجدران التي تخلقها لنفسك، فقط لتكون قريبا من ذاتك، لكنّهم لا يتركون لك فرصة الإنتباه لذاتك، هكذا، عليك أن تكون جزءاً في الحشر، مباحاً كما الحشر، وكأنّك عارٍ تماماً بين آخرين عراة أيضا، لكنّهم يتقمّصون دور المرايا، فالكلّ يعكس لك وجهك الذي لا تحبّ ولا تريد، ولكنّهم يجدونه الوجه الأحبّ والأجمل، فقط لأنّه مثل وجوههم بلا سمات وبلا ملامح، هكذا، وجه عارٍ من الوجه. وجه بلا وجه.
***
هذه ليست كتابةً بل نزفاً، إنّها قرفٌ من ثقافة بأكملها، ثقافة لا تنتبه لذاتِها، لا تعيد قراءة ذاتها، ولا تتقبّل النقد أيضا، بل إنّني أبدو نشازاً هنا، وكأنّني شاذٌّ تماما، وبسهولة مفرطة في السذاجة يمكن أن يتصدّى لي شخصٌ ما، شخصٌ بلا وجه، وبلا ملامح، ليتجرّأ على أن يقول لي: "عليك ان تنتبه فإنك تتجاوز خطوطك الحمر هنا وهناك".
شخص مثل هذا لا يعلم أنّ الذات تبدأ بالإنوجاد والتحقّق من لحظة الخروج على الخطوط الحمر. الخطوط الحمر التي تجعل صناديق الحشر أكثر ضيقاً، وأعمق تفاهة.