( ١ )
الكلاب، كما لو أنّها تعوي من السماء.
***
وكأنّني أحثّ الذاكرة على التذكّر، لكن،
لماذا التذكّر وليس النسيان؟
ألم أخرج ناقماً على كلّ شيء؟
ألم أقف على الحدود القصوى عند نقطة التفتيش الأخيرة وأقرأ تأبين الحياة كلّها؟
ما الذي يدفعني الآن الى التذكّر؟
هل هو الفشل في تحقيق الذات؟
وما الذات أصلا؟
أكاد أقفز ثانية، لكن، الى الماضي البعيد جداً، الى البداية الأولى، الى ما تناقلته الشفاه جيلاً بعد جيل،
عليّ أن أنتبه هنا الى أنّني ما أزال أعيش زمناً شفاهيّاً،
ما أزال الى الآن أروي عن فلان عن فلان،
ما يزال عقلي عنعنيّاً، ويبدو أن لا خلاص لي من هذه العنعنة.
***
ومع هذا يبدو مدخل الكلاب التي كأنّها تعوي من السماء مغرياً، كان هذا هو إحساسي الحقيقي طيلة وجودي على الأرض، هكذا رأيتني مطارداً بعواء مرعب، كنت ألتفت يميناً ويساراً، الى الوراء والى الأمام، دون أن أرى كلباً واحداً، كانت الكلاب التي تطاردني تعوي دون انقطاع، عواء موصول، الى درجة أنٌني أغلق آذاني بالقطن مرّة، أو ألصق بها أحجاراً بصمغٍ أتفنّن في صناعته، لكن، لا نجاة ولا خلاص، العواء موصول، ليس من جهة، من الداخل، عواء قديم ينبع من أقصى أطراف السلالة، يبدو أيضا، وكأنّه ينحدر من السماء ، هكذا أنا بين عوائين موصولين كنت أركض حياتي كلّها.
***
( ٢ )
لم أتهيّأ بعد لأخرج، رغم أنّني قضيتُ زمناً طويلاً وأنا أركض بعيدا.
يبدو أنّ الخروج شيءٌ آخر غير الركض بعيداً، أو أنّني ما أزال أركض بعيداً داخل نفس الدائرة، ألهذا تطارني العنعنة؟
أحاول قدر ما أستطيع فتح أبوابي الداخلية، وأندسّ وحيداً.
أليس غريباً أن يتطلّب الوصول الى الذات سرّيةً كهذه؟
أن أختلس نفسي في غفلة من هذا العالم المكتظ.
ولكن الكون يقظٌ لا يغفل ولا ينعس ولا ينام، أراني عالقاً في فخّ الكون اليقظ.
الكون الذي يبدو وكأنّني لقمةً في فمه، يمضغني ويبتلعني.
أحياناً كثيرة أراني أتقلّب بين أنيابه وطواحينه، وفي أحيانٍ أخرى أنزلق عبر المريء، مرّة واحدة رأيتني أخرج من دبره، ومع هذا فسرعان ما إلتهمني ثانية! هذا كون يأكل خراءه دائما.
***
( ٣ )
من المنطقي أن تنحدر السلالة من زمنها البعيد، لكن، لماذا ينحدر الزمن البعيد وتنقرض السلالة؟
لماذا لا يبقى من الأولين غير أزمنتهم؟
لماذا أجد نفسي دائماً هناك في البعيد ولا أجدني هنا؟
ما الذي سيبقى منّي للقادمين الجدد؟
***
( 4 )
كما لو أنّها ركضة بريد، وعليّ أن أوصل الرسالة الأولى ذاتها، دون أن أفكّر في افتضاضها، وكأنّني طرفة بن العبد يحمل رسالة قتله الى قاتله، وكأنّنا جميعاً طرفة بن العبد، ومع هذا لا نتوقّف عن الركض لحظة، بل نتسابق في إيصال رسائل قتلنا، وكأنّنا نستعجل ذلك، بل نقصده كغاية؟!
***
( 5 )
لقد تعبت حقّاً، أعترف بذلك، تعبت من البحث عن جدوى، أغلّف الثواني بالتفاصيل فتظلّ عارية، لا شيء يُخفي عُري الوقت.
هكذا أركض مثل زمنٍ عارٍ في كونٍ طلسم، رغم أنّني أعرف بعض أسراره، الغامض منها على التحديد، بل أكاد أكون هناك في الرحم قبل الإنفجار الكبير .