هذا ليس حلماً وليس كابوساً، إنّه واقعٌ محض، حياة يوميّة، أن ترى أحداً هنا أو هناك، يخرجُ مُعبّئاً بنيّة ركل الكوكب، وترى - في نفس الوقت - الكوكب كلّه راكضاً وراء تلك الركلة، وتتساءل لأجل ماذا؟ وإلى أين؟
***
الإقتراب من التاريخ، وبالذات، الإقتراب من اللحظات التي غيّرت إتّجاه حركة التاريخ البشري، يجعلني أتحسّس ما يحدث الآن كتكرار، حتى يبدو الإنسان، إستنساخاً باهتاً لأصول تلاشت بفعل التقادم، لا أتحدّث عن فئة بعينها، ولكنّني أتّخذ الإنسان ككل، الإنسان كقيمة تتضاءل بفعل التكاثر، وبفعل التنافس الإقتصادي.
***
لقد كان أبو العلاء المعرّي شفّافاً جدّاً، وإنساناً متفائلاً الى حدٍّ بعيد، حين رأى وجود الفرد - أيّ فرد - ضرورة للحياة لأنّه يؤدّي خدمة: "الناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ".
***
ثمّة واجب لكلّ فرد، واجب يؤدّيه مقابل حقٍّ يأخذه، هكذا، ما دمتَ على قيد الحياة فأنت تَخدُم لتُخدَم. خدمة إزاء خدمة، هذه الرؤية الشفّافة يمكن تصعيدها، الى درجة أنّ ما تقوم به من واجب، حتى ولو بدا ضيّقاً ومحدوداً فإنّه في النهاية يعمُّ الكوكب كلّه، لأنّ البشرية الآن عبارة عن شبكة علاقات واتّصالات متداخلة، فليس هناك إنساناً منعزلاً عن الكوكب تماماً، هكذا، أنت تخدم البشرية كلّها كلّ يوم، بل كلّ لحظة، حين تؤدي الواجب الذي عليك، وبالمقابل، فإنّ البشرية كلّها، بكلّ ملياراتها، وبكلّ إختلافاتها، تعمل على خدمتك كلّ يوم، بل كلّ لحظة.
***
هذا الوعي الإنساني الشفّاف نافذة هائلة للتآلف البشري، ودافعاً كبيراً للمحبّة والحميمية في العالم، أكاد أقول، بهذا الوعي وحده، يمكن أن تتغيّر وجهة التاريخ مرّةً أخرى، أن يكون الإتّجاه الى بناء حياةٍ ومستقبلٍ أكثر إشراقاً وأملاً.
***
وبالتأكيد، لو نظرنا الى الجانب الآخر من الرؤية، وهي أنّك حين تتوقّف عن إداء واجبك تجاه الآخر ، أيّ آخر، فإنّك تُحدِث خللاً وإرباكاً في عمل الحياة كلّها، قد يتم تلافي الخلل بأن يبادر آخر، أو يُجبَر على أن يؤدّي واجبين بدلاً من واجبٍ واحد، أن يقوم بإداء عملين بدلاً من عمل واحد، وما في هذا من غبنٍ وإجحاف بحقّ البديل، البديل هنا تتمّ سرقة حياته، لأنّنا في النهاية نخدم من أجل أن نحصل على فسحة استرخاء، أن يكون لنا في يومنا بضع ساعاتٍ لنستمتع بوجودنا في الحياة، وعليه عندما تضمحل أو تتلاشى ساعات الاستمتاع الذاتي بالنسبة لأيّ فرد فهذا يعني أنّ أحداً ما يسرق حقّه في الاستمتاع.
***
أمّا إذا كان فعلك إجراميّاً، فالخلل والإرباك سيكون أكبر وأعمق، إن لم يكن كارثيّاً.
***
ما أريد قوله هنا، أنّ جرائم القتل والتفجير هنا وهناك على الأرض، خصوصاً تلك التي ترتدي معطفاً دينيّاً، رغم أنّ محرّكاتها ودوافعها ليست دينية تماماً، بل إنّ القائمين بها ليسوا سوى دمى متحرّكة بخيوط تكاد تكون مرئية، أقول، هذه الجرائم تُحدِثُ شرخاً في الحسّ البشري الشفّاف، وتقود الأرض ومن عليها الى نهاياتٍ سوداء.