رأيتُ الكثير من العراقيين الذين يعيشون في استراليا يأتون الى شارع جلان جكسا، وعندما يُسأل أحدهم عن جنسيته يجيب بأنه استرالي، فاستراليا كما يظن تجلب احترام أهل البلد له، بل ان العراقي يتبرع بقولها دون أن يسأله أحد، فيقول بمناسبة وبدونها:
أنا أسترالي!
لكن بعض الاندنوسيات النابهات يُجبن في الحال:
ولكن لون بشرتك لا يقول ذلك!!
ولا أدري ان كان الخجل ينتاب بعضهم أم لا؟
يحرص العراقي هنا أن يكون من سلالة مختلفة ومن كائنات أرقى، فهو يمتلك المال الذي يجعله يتحدث بصوت عال.
وجهه الأملح يفضحه، إلاّ انه يحاول أن يسرّب رواية مختلفة عنه.
وغالبا ما تراه منفوش الريش، يتبختر في الشارع ويستعرض طوله فيه.
ولكن من يتحدث هنا المال وليس الجنسية، فالاندنوسيات يقلن للسائح المفلس أيا كانت جنسيته: ماذا تفعل هنا اذا كنت لا تملك مالا؟
أحد العراقيين وكان يسكن في نفس الولاية التي أسكن فيها في جنوب استراليا، وكان يعمل مجهّزا "للعربانات" التي يحتاجها المتسوقون الاستراليون، كان يدفع هذه "العربانات" أكثر من ثماني ساعات يوميا، ولكنه الآن في اندنوسيا من طراز آخر.
قال لي بعد أن رآني أتناول وجبتي من أحد الباعة المتجولين:
ألا تخجل من تناول الطعام والجلوس قرب هذه "العربانة"؟
قلت: وماذا تفعل أنت في استراليا ألم تدفع هذه "العربانة" طيلة وجودك هناك؟
2
هشام المصري كان طالبا في كلية القانون، حلم الثروة المباغت استوطن عقله وأخذ بتلابيبه، كانت عائلته عباره عن أكوام من اللحم، كما قال لي.
تعرفتُ اليه في شارع جلان جكسا، طوال الوقت يصرخ ويلعن الأيام التي أوصلته الى تلك الحال.
كان يحشر نفسه في أي تجمع ما، ويجلس على أية طاولة بلا استئذان، ويرطن بانكليزية هزيلة، كان في أواخر العشرينيات من عمره بعضلات مفتولة نوعا ما.
تعرّف الى فرنسية في المقهى التي نجلس فيها، وبعد أقل من ساعة على هذا التعارف، أخذ يقبلها قبلات ساخنة ويعبث بجسدها.
في اليوم التالي سافرت الفرنسية وأخذ يحدثني، فيما بعد، عن مغامراته العاطفية معها عندما ذهب معها الى غرفتها في الفندق قبل أن تسافر، إلاّ انه أضاف بأن مغامراته معها اقتصرت على المداعبات الخارجية فقط، وعندما سألته عن السبب قال:
شعرت ان الايلاج حرام، فأنا عندي أخوات أخاف عليهن!!
كان هشام المصري يحلم بدولة من دول اللجوء وقد اتفق مع أحدهم على أن يسفّره الى الاكوادور عن طريق جاكارتا وقد أخبرني بأن هناك ترانزيت للطائرة في هولندا حيث سيقوم بتمزيق الجواز المصري والاختباء في مكان ما لحين مغادرة الطائرة المطار.
وقبل رحيله بساعة قال لي:
- لقد فعلتها مع المرأة الاندنوسية، صاحبة النظارات، فقد ضاجعتها اليوم!
قلت: ولكنك لم تفعلها مع المرأة الفرنسية وقلت لي بانه حرام!
قال: لقد حدث الأمر دون ارادة مني.
والحقيقة التي لم يقلها ذلك المصري، هي ان المرأة صاحبة النظارات كانت بريئة جدا ولا تطلب من أحد ثمنا لمضاجعتها، وقد تيقن المصري من ذلك وفعلها معها!
في نفس اليوم رأيتُ الفتاة صاحبة النظارات وقلت لها: هل ضاجعك المصري؟
قالت: قال لي انه سوف يتزوجني!!
3
شوارع لا حصر لها في هذا العالم تشبه شارع جلان جكسا وبمسميات عدة، شوارع بلا طمأنينة حقيقية وما يتجلى في ظاهرها هو أشبه باتفاق خفي لجعل الواجهة لمّاعة إلى أقصى حدود اللمعان.
في الفجر وعندما كنتُ جالسا في الكافتيريا أقتحم مائدتي أحدهم وقدم نفسه لي على انه أحد العسكريين الأوربيين المتقاعدين وبدا لي كما لو انه يعرفني منذ زمن بعيد قائلا:
- هلو صديقي.
رحبت به وكانت رائحة الكحول تفوح منه.
سألني عن بلدي، وحين أخبرته انني من العراق وأعيش في استراليا أخذ يزخّ عليّ معلوماته التاريخية عن بلاد ما بين النهرين وعن اسمها القديم ميتوبوزيميا وكيف انه تلقى تلك المعلومات في دراسته الأكاديمية العسكرية.
علمتُ انه من دبلن وقادنا الحديث إلى جيمس جويس وروايته الذائعة الصيت يوليسيس وقال لي انها رواية صعبة للقارئ الانكليزي وكيف ان جويس سرد فيها حياة يوم واحد في دبلن.
تفرع حديثنا مع انتشار شعاع الشمس الى الكروسيد "الحروب الصليبية".
وقال لي:
ان الحروب الصليبية تستفز مشاعركم لكنها لا تعني لنا سوى مفردة الحرب، تماما مثل مفردة الجهاد التي يخشاها الأوربيون ويظنون أنها تخص الإرهاب، في حين ان دلالاتها كثيرة فهي تعني مثلا الجهاد في سبيل الوطن وفي سبيل المبدأ والحياة ثم أضاف انهم لا يلقنوننا في أوربا عن العرب إلاّ ثقافة العنف والموت!
4
في ظهيرة ما، جلس إلى جواري شخص مع فتاة أندنوسية تغلب على وجهه الملامح الأوربية، ولأنه كما يبدو كان يبحث عمن يتحدث معه قال لي: هل أنت من الخليج؟
قلت: أنا من العراق وأقيم في استراليا.
قال: وأنا أيضا أقيم في استراليا منذ 35 عاما لكنني لبناني الأصل واعمل في أمن مطار سدني.
وكان الرجل مهووسا بالنساء الأندنوسيات الصغيرات ويبدو ان إقامته الطويلة في استراليا لم تُنسه لغة الفتوة والفتونة اللبنانية.
قال لي: انظر إلى هذه الفتاة التي إلى جانبي لقد كانت قبل ساعة في غرفتي في الفندق.
نظرتُ إليها وكانت فتاة صغيرة لا تتجاوز العشرين عاما، ثم أضاف بلهجة لبنانية: "فرمتهْ فرم"، ويقصد بأنه أنهكها من خلال مضاجعته لها.
وأدركتُ في سري ان هذا الرجل مازال يفكر بمنطق الضيعة اللبنانية ورواسب القبيلة مازالت شرسة في عقله.
قلت له:ولكنها في عمر ابنتك الصغيرة؟
قال لي: كل شيء هنا له ثمن.
قلت: نعم مادمتَ تمتلك المال فكل شيء له ثمن!!
حاول أن يغير مجرى الحديث، ولكنني كنت على يقين بأنني نكأتُ شيئا ما في دواخله من خلال نظراته العدوانية لي..
5
الشاب الفلسطيني راشد، كان زير نساء، انعقدت بيننا ألفة وحميمية، كنا نتحدث في كل شيء، وذات يوم سألته عن شخصية ياسر عرفات وهل انها محبوبة عند الفلسطينيين، فقال: لا علاقة لي بياسر عرفات ولا بغيره، هذا الكلام ما " يوكّل خبز "، أريد اشياء واقعية تدخل جيبي، السؤال المهم عندي كم كسبت اليوم وما الذي أضفته الى رصيدي، ما يحصل عليه الوطن لا يخصني لأنني أعرف بانه سيذهب الى غيري من اللصوص!
يا وطن يا رجل.. يا...
ثم انتبه فجأة الى مؤخرة فتاة جميلة كانت تسير في الشارع معلّقا:
انظر الى هذه المؤخرة، سترى فيها خارطة الأمم السابقة واللاحقة، أريد أن أنام على هذه الخارطة للأبد!
وبينما هو مستغرق في ذكر تفاصيل جسد المرأة، هبط علينا فجأة شخصان، وبدون أية مقدمات قال لي أحدهم:
أنا من كردستان، أنا كردي، نعم للدولة الكردية، نحن أقوياء لا يزحزحنا أحد.
ثم أوقفته عن الحديث قائلا له باللغة الانكليزية:
قال لي: هل تستطيع أن تساعدني على الهرب الى استراليا؟
قلت له: لماذا لا تبقى في كردستان التي كنت تهتف لها قبل دقائق، فهي بحاجة الى رجال أشداء من أمثالك؟
قال: أنا من كركوك وعاطل عن العمل، أريد ان احصل على المال بأية طريقة، وفي استراليا يوجد المال.
استأذنته بأدب تاركا الطاولة له ولصديقه وانسحبتُ منه فارا بنفسي من ثرثرته وضجيجه.
البشرية هنا لها قصص مختلفة ولكنها بالنتيجة تصب باتجاه المال والحصول عليه.
6
عند صلاة الفجر سمعت صوتا يناديني:
هل أنت عربي؟
قلت: نعم من العراق.
قال: أنا اخوك فلسطيني.
قلت: أهلا وسهلا بك، تشرفنا.
قال: هل أنت تاجر.
قلت ساخرا: أعوذ بالله!
قال: أنا في ورطة، وقد أنفقت جميع ما عندي وأريد أن أبيع موبايلي.
لم أتعاطف مع ذلك الرجل خصوصا وان نبرة صوته العالية مزعجة وطريقته في الحوار تبعث على الريبة.
قلت: أنا لا أحمل النقود معي وانما استخدم الكارت البنكي.
وقف الى جواري في صلاة الفجر وكان صوته يجلب انتباه الآخرين.
وبعد ان انتهيتُ من الصلاة خرجتُ مسرعا دون أن امنحه فرصة أن يلحق بي، وهكذا انسللتُ الى غرفتي في الفندق.
بعد يومين رأيته ثملا في شارع جلان جكسا، يغني ويرقص، وحين رآني جالسا اسرع اليّ وبعد التحية والسلام جلس الى مائدتي وعرفته على رجل كان قد جلس الى مائدتي قبله، واسمه طارق المصري، وبعد لحظات قال لي:
سمعت انك تعيش في استراليا وأريد أن اذهب معك ونقودي جاهزة في جيبي!!
وضعني في حيرة عن مصدر نقوده وهو قبل يومين يريد أن يبيع موبايله؟
ثم أخذ يغني باللهجة المصرية ويهزّ رقبته الطويلة وقام بممازحة طارق المصري، ولأن طارق من النوع المنكمش على نفسه ولا يحب المزاح فقد نهر الفلسطيني أول الأمر ثم تحول المزاح الى سخرية من المصري، حينها احتدّ طارق المصري وهدده بانه سوف يذهب الى البوليس اذا لم يكفّ عن السخرية منه، ولأن الفلسطيني كان ثملا فانه لم يأخذ كلام المصري على محمل الجد، وهكذا ذهب المصري الى أقرب نقطة للبوليس.
وطارق المصري نسيج خاص لوحده، قدّم نفسه لي على انه مدرس للغة العربية في ماليزيا وقد جاء في عطلة الى اندنوسيا. مدرس اللغة العربة هذا لا تبدو له أية علاقة باللغة العريية، فطيلة جلوسي معه لم أحصل منه على جملة مفيدة!
بعد أكثر من ساعتين جاء المصري وبيده نسخة من محضر الشرطة وفيه أمر بالقاء القبض على الفلسطيني وبمعية أحد الشرطة الاندنوسيين، لكن الفلسطيني كان قد غادر الشارع.
أخذ المصري يتهدد ويتوعد، ويلوّح بمحضر الشكوى.
حينها همستُ في اذن المصري:
كم دفعت حتى عملوا لك المحضر؟
نظر اليّ بطرف عينيه قائلا:
سأدفع كل ما عندي من أجل القاء القبض على الفلسطيني.
قلت: سيستنزفونك ماديا، وحتى لو القوا القبض على الفلسطيني سيتركونه يهرب ثانية برشوة وهكذا يتركون الأمر معلقا بينكما فأنتما بالنسبة للشرطة الاندنوسية مصدر رزق سهل للغاية، ثم لا تظن ان هذا الشرطي الذي الى جانبك جاء لسواد عينيك، سوف يطالبك بثمن مجيئه.
قال غاضبا: لقد دفعت لهم ما يكفي ولن أعطي المزيد.
بعد فترة من جلوسه معنا غادر الشرطي الى مقهى الانترنت القريب، وبعد دقائق اتصل الشرطي بالمصري طالبا منه اللحاق به.
بعد لحظات جاء المصري يصفق كفا بكف قائلا: لقد أجبرني على أن أدفع له مئتي ألف روبية، أي ما يعادل عشرين دولارا.
في ساعة متأخرة من الليل رأيت الفلسطيبني يجوب الشارع جيئة وذهابا وهو في حالة من الثمالة و يصرخ: أين المصري، اليوم أشرّح وجهه.
فقد أخبره أحدهم بأمر القاء القبض.
في اليوم التالي أخبرني عامل الكافتيريا التي نجلس فيها ان المصري جاء الى الكافتيريا صباحا وبصحبة شرطيين، وآثار الضرب والجروح واضحة على وجهه وجسده، فقد قام الفلسطيني بضربه ضربا مبرّحا ثم ولّى هاربا، وهم يبحثون عني، فقد أخبرهم المصري ان الفلسطيني صديقي وأعرف الأماكن التي يتواجد فيها!!
7
كان هادي، الذي رأيته مصادفة في هذا الشارع، وهو يعيش في استراليا ومن أصل عراقي جنوبي، يوبخني على سكني في شارع جلان جكسا قائلا لي: هذا الشارع زبالة يضم نفايات البشر، والأوربيون الذين يأتون إليه، هم زبالة أيضا.
وهادي هذا كان مشردا في إيران يلملم أعقاب السكائر من الشوارع ثم عمل حمّالا في ميناء بندر عباس الإيراني وكان يلتقط ما يلقيه البحارة من نفايات، وشاءت الأقدار أن يختبئ في سفينة قادته صدفة إلى استراليا ليحصل على حق اللجوء الإنساني ثم يحصل على الجنسية بعد ذلك.
وبعد أن استقرّ به المقام في استراليا نسى أعقاب السكائر وبقايا المعلبات التي يقذفها إليه البحارة فأصبح استراليا أبا عن جد وغيّر اسمه العراقي الى اسم انكليزي، بل انه يتباهى أمامي انه لا يضاجع في أندنوسيا إلاّ الفتيات الصغيرات اللواتي قادهن الفقر والجوع إلى براثن هذا الكائن.
وصديقي هذا ليس له علاقة بالأرض ولا بالسماء ولا ينصت إلاّ لأخبار أعضائه التناسلية.
وذات يوم ألحّ علي أن أزوره في شقته المستأجرة في جكارتا وما أن دخلت الشقة حتى تناهى إلى اذنيّ صوت لطميات ينبعث من مسجلته، وحين سألته عن سبب هذه اللطميات قال لي مستغربا: ألا تعلم أن أيام عاشوراء على الأبواب؟
فقلت له: وهل تضاجع الصغيرات على إيقاع اللطميات!!
صديقي هذا ذكرني بذلك الشخص الذي كان يجلس في احدى مقاهي الميدان في بغداد، أيام التسعينيات، وهو يرتدي دشداشته البيضاء النظيفة ويضع في جيبه الجانبي رزمة مالية من فئة 250 دينارا ويحرص على أن تكون مرئية من قبل الآخرين.
كان يضع رجلا على رجل وهو جالس في المقهى وكأنه ابن أحد الباشوات، لكن حقيقته تختلف عن ذلك كثيرا، فهذا الرجل كان يسكن في احدى فنادق منطقة الميدان الرخيصة وكان يستيقظ كل يوم فجرا، مرتديا دشداشة ممزقة ويلف وجهه بيشماغ أبيض، حتى لا يتعرف عليه أحد، وهو يحمل كيسا مطويا بيده، ثم يركب احدى باصات النقل العام متوجها الى منطقة من مناطق بغداد، يختارها بعناية، ففي كل يوم له منطقة مختلفة وشارع مختلف، يطرق الأبواب على الناس مستجديا منهم ما تجود به أيديهم من المال والطعام وحتى مفردات الحصة التموينية!
وبعد أن تمتلئ جيوبه بالعملة المحلية ويمتلئ كيسه بالرز والطحين والسكر، الذي يجود به الخيّرون، يقوم ببيع هذه المواد الى أحد أصحاب الدكاكين، أما العملة، وكانت أغلبها ممزقة في تلك الفترة، فيذهب بها الى البنك ويعطي هذه العملة الى احدى الموظفات لتعطيه بدلا عنها عملة جديدة من فئة 250 دينارا، مع عمولة معينة لها، ليضعها فيما بعد في جيب دشداشته البيضاء عندما يجلس في المقهى عصرا!
العراقيون ممثلون بارعون، فضيحتهم تجيد دورها في الحياة!