1
في اليوم الذي اتفقتُ فيه مع أحد دلاّلي البيوت على شراء بيت في استراليا، مع صديقي فراس حبيب، شاهدتُ في احدى القنوات الفضائية جثة امرأة وجثة ابنها الصغير في مدينة الرمادي، وقد قال المراسل الصحفي وهو يشير الى الجثتين: ان المرأة هربتْ من البيت مع طفلها، كانت تتقدم باتجاه ملاذ آمن، فانفجر عليها لغم فقتلها وقتل ابنها الصغير!
بقيت الحقيبة الصغيرة التي حملتها معها مرمية في العراء..
قال أحد الجنود للمراسل الصحفي: سنحمل الجثتين، لن نتركهما لتنهشهما الكلاب ..
في اليوم التالي لم أذهب الى الدلاّل، اتصل بي مرارا فأخبرته بانني مريض.
لكنني في الحقيقة كرهتُ البيت وفكرة البيت علاوة على ان فكرة التملك لم تخطر ببالي أبدا.
ثمة صفقات تنعقد في غفلة منا وهي التي تحدد مصائرنا!
كانت المرأة حياة راكضة فاستوقفها الموت وأجبرها على تغيير مسارها باتجاهه؟
ثمة طوق ملوّن على رأس المرأة وأظنه من الزهور، هل تنبّه الموت لذلك الطوق؟
كان البيت يعني بالنسبة لي التوطّد في الحياة ولكن جثة المرأة المسجّاة وجثة طفلها قالا لي: ان الهرب من البيت هو الحل الوحيد المتاح!
رأيتُ الكثير من مشاهد الموت والاعدامات المباشرة ولكن مشهد المرأة وطفلها كان درسا يفوق الموت نفسه.
تُرى، أي ذنب اقترفاه ليدفعا ضرائب نزوات الآخرين في اشاعة الموت المجاني؟
تلك الأمومة المسفوحة تجعل خارطة الوطن تتقيأ نفسها.
كانت المرأة تحمل راية بيضاء سقطت الى جوارها..
أي زمن هذا الذي تحمل فيه الأمهات رايات بيض وهنّ يتعثرنّ بأجسادهنّ الخائفة!!
ذلك المشهد أدمى قلبي حقا وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل.
رأيت الوطن يشيّع نفسه في هذه الرايات.
ما الذي يجري، لماذا تباع الأوطان بهذه الخسّة؟
لماذا يصنعون من الأبرياء أعداء للوطن، ما الذي تسعى اليه العقول التي أوصلت الأمور الى هذه المتاهة، هل يسعون الى تقسيم العراق أم الى محوه من الخارطة؟
لماذا يصر مشعلو الحرائق على ادامتها بهذه الوحشية؟
هناك من قبض ثمن ذلك بالتأكيد وربما تفرج على نفس المشهد، الذي تفرجتُ عليه، من فندقه الفخم في احدى دول الجوار أو الدول الأخرى، من دون أن يرف له جفن لأنه باع كل شيء للشيطان، الشياطين تحارب نيابة عنه.
2
لقد مات العراق مذ حملت الأمهات الرايات البيض، رايات الاستسلام!!
أريد أن أركض خلف تلك المرأة الى مالانهاية، انها امي وأنا ابنها الذي مات معها!
فما جدوى البيوت التي تهجرها الأمهات؟
سنوات أمضيتها في مدينة الرمادي جنديا في مركز تدريب مشاة هيت، مازال أنين النواعير يرنّ في أذني، هل كانت النواعير ترثي الأمهات؟
اتصل بي الدلاّل قائلا: اذا تخليتَ عن العقد المبرم بيننا سوف نأخذ العشرة آلاف دولار التي دفعتها كمقدمة للبيت وسوف تدفع غرامات أخرى.
وهكذا وضعني في زاوية قاتلة وأجبرني على شراء البيت..
عندما انتقلتُ الى البيت الجديد، كنتُ كالممسوس أفتش الغرف بحثا عن المرأة وابنها، ربما رأيتُ أشياء مبعثرة في الغرف.
طرقتُ أبواب الجيران والدموع تنهمر من عينيّ وأنا اصرخ بصوت هستيري: هل رأيتم امرأة وابنها خرجا من بيتي؟
الجيران يحدقون اليّ مذهولين وعلامات الشفقة على وجوههم..
ربما ظنوني مجنونا...
ثم أخذتُ أشرح لهم الموقف:
أعرف ان الحروب المسعورة في المدن تجعل البيوت ملاجئ مؤقتة مكشوفة لا توفر حماية ما، وانها تلغي الزمان والمكان وتجعل الانسان طافيا على مستنقع الموت.
وأعرف أيضا ان الأرض دارت دورة كاملة حول هذه المرأة وابنها وان الذعر نقلهما من عالم الى عالم آخر على أطراف الكرة الأرضية، وانهما اتجها الى بيتي بعد ان حاصرهما الموت من جميع الجهات، فلماذا لم يوفر لهما بيتي الحماية؟
لقد كنتُ شريكا في جريمة القتل هذه، فان تُقتل أية أم مع طفلها وفي أية بقعة من الأرض وأنت تتفرج على هذه الجريمة، فأنت شريك في الجريمة!
سأجعل من بيتي الجديد وقفاً لمأتميهما، وسأقيمُ حدادا مفتوحا على نفسي وعلى ما تبقّى من أيامي، الى أن أرى تلك المرأة وقد نهضتْ من رقدتها مع طفلها الصغير!