1
هناك من يسمّي نفسه شاهدا على العصر، وهو في حقيقته ليس له من الشهادة شيئا، لا بالعير ولا بالنفير، انه محض التباس يريد أن يمنح نفسه تسمية ما، ومادام هناك " مسطر " للشهود فلماذا لا يقف فيه بانتظار دوره؟
الشهود عندنا مثل فصائل النمل، تدب على الواجهات المحرّمة، فجأة وبلا مقدمات، تبصر أرتالها الزاحفة في طابور طويل لا ينتهي وهي تقف على عتبات منابر القول، لتدلي بالشهادة!
عندما ينحط الواقع وتغدو وقائعه مسخرة يتناسل شهود الزور، أولئك الذين يخرجون من جحور أنفسهم، ليخبروننا بما كان وربما يتحفوننا بأخبار الماوراء وقراءة الغيب!
يفصّلون أزياء للعصر الذي يتحدثون عنه، على وفق مقاساتهم، ثم يلبسونها اللحظات التي عاشوها، ويسوّغونها على انها الحقائق المسكوت عنها!
لكل عصر كواليسه التي تُطبخ فيه الدسائس وتمرّر على الرعية المغمضة العينين، ثم يأتي بعد ذلك ممن يسمّي نفسه: شاهد عصر، وبعدما يصبح الخراب شاملا، ليكشف لنا اللعبة التي كان ذلك الشاهد طرفا فيها!
مَنْ هم شهود العصر، وأي عصر ذلك الذين يشهدون عليه، وما جدوى شهادتهم المتأخرة بعد فوات الأوان؟
لا ثقل للشهادة إلاّ في أوانها وإلاّ اذا كانت تقلب الأمور رأسا على عقب، تزيح الستائر وتجعلنا نرى ماوراء الكواليس.
الشهادة الحقة المتوخاة هي ركلة على مؤخرة التاريخ الجاثم علينا بأكاذيبه!
الشاهد الحق هو الذي يتوضأ بماء اليقين لا بالعرق المتصبب من جباه المستغفلين، ذلك الذي "يجعر" في الوقت الضائع ولا تدري من أي ثقب في جسده يأتي "جعيره"!!
في الأزمان الرخوة يكثر شهود العصر الذين لا غاية لهم الا أن يكونوا نجوما في الفضائيات وكأنهم لم يكونوا ذيولا تنش الذباب عن وجوه القتلة!
لا نريد لتاريخنا شهودا لاحقين وملفات مطوية، لا نريد شهودا يتكتمون على الجريمة في حينها ثم يأتون الينا بعد عشرات السنين ليذكروا لنا تفاصيل تلك الجريمة التي تسببت بموت الأبرياء!
نريد ان نعرف من يتلاعب بنا وبأيامنا ومصائرنا.
لا نريد من يفتح الملفات وقد انتفت الضرورة لفتحها، لكنه يفتحها حين تتطلب مصلحته ذلك.
لا نريد من يعاقبنا على استغفالنا.
2
غالبا ما تكون تلك الشهادة عن الموتى، وبالأخص فضائح الموتى، لماذا لم يشهدوا عندما كانوا على قيد الحياة؟
انها ليست شهادة بالمعنى الحقيقي للشهادة وانما هي أشبه بنشر للغسيل على حبال الضمائر المتهرئة.
يخرج علينا أحدهم ويقول: ان فلانا كان مهووسا بافتضاض العذارى، وكان هو نفسه قوّادا له، جاءنا في هذا الزمن المسخ ليتحفنا بشهادته!
أفواج من شهود العصر كانوا أشبه بخصيان يتنقلون بين محظيات أولي الأمر واليوم يتحدثون عن الشرف الرفيع!
انه مكر التاريخ الذي يجعلهم يكشفون عوراتهم من حيث لا يشعرون.
هؤلاء ليسوا من أهل الشهادة وانما يوظفونها لمآربهم.
الكثير منهم يحاول أن يضع نفسه في دائرة الضوء وهو لم يرَ شيئا ولكنه سمع مع من سمعوا، ومع ذلك فهو يريد أن يكون شاهد عصر، لعل هذه الشهادة تقربه من جهة ما!
هكذا نحن، نؤجل شهادتنا عن أيامنا الى أيام أُخر وبعد أن تضيع جثث الضحايا ويضيع الوطن!
الشهادة التي لا تنقذ ما تستطيع انقاذه ليست شهادة، انها جريمة أخرى، والذين يدلون بها لاحقا ولم يدلوا بها في حينها وكانوا أطرافا فيها، مجرمين، لا ينبغي أن يتركوا دون عقاب!.