1
اسمه " قلب " ونناديه " كَلب " تحبّبا، وكنيته أبو حسن، هو مثل اسمه تماما، قلب مأهول بالطيبة والنقاء.. كان صديق الجميع في ولاية جنوب استراليا.. أُصيب بالسرطان مؤخرا.. رأيته بعكاز في أخريات أيامه.. زرته في المستشفى مع بعض الأصدقاء قبل موته بليلة واحدة..
لم يكن هو.. كان كائنا آخرَ.. تحولتْ بشرته السمراء الى صفراء.. كان الذبول طاغيا عليه وكانت نُذُر الموت تحوم حوله.. كم تمنيتُ أن أصوره في لحظته تلك، لحظة انخذال الكائن، ولكنني خجلتُ من أخيه " أبو منتظر " الذي كان يجلس الى جواري في غرفة المستشفى... فأنا أحب توثيق لحظات الموت.. لكنني رأيتُ أحد الأصدقاء يصوره بالموبايل.. عند خروجنا من المستشفى طلبتُ منه أن يرسل الصور التي التقطها على ايميلي الخاص.. أريد أن أرى نهايتي القادمة، على سرير ما، في وجه أخينا " أبو حسن " قبل أن يسلم الروح!
هكذا نحن، ما يتبقّى منا مجرد صور مخزونة في البومات!
الذين جاءوا معي لزيارة المريض لم يبصروا الجسد المُعدّ للموت.. كانوا يمطرون أخيه بوابل من الأسئلة عن المرض وأسبابه ومتى حصل، وماذا قال الدكتور وما هي نتائج الفحوصات و.. و...
بقيتُ أحدق في وجه صديقنا المُسجّى والأُبر المغروزة في جسده.. فقفزت صورته إليّ وهو بملابس العمل فيما مضى.. كان نشطا دؤوبا، يتحدث عن الحياة بشغف، كما لو ان الموت ليس موجودا فيها!
في اليوم الثاني مات أبو حسن.
نُقلت الجثة الى احدى ثلاجات المستشفى.. هذا هو الانسان، يصبح قطعة لحم في ثلاجة، خشية أن تتسرب عفونتها الى جهات الكون!
ستبقى الجثة لمدة يومين في هذه الثلاجة، وهما عطلة نهاية الاسبوع.. وسوف يتم استلام الجثة يوم الاثنين..
2
في مساءاليوم الذي مات فيه صديقنا أبو حسن، ذهبتُ مع بعض الأصدقاء الى المقهى التي تضم أطياف العراقيين، لعبنا الدومينو وتصايحنا واحتدّ بعضنا وضحكنا كثيرا، ونسينا أمر جثة صديقنا التي تنظر إلينا من ثلاجة الموتى!
نسينا ذلك الرجل الذي كان بيننا، نسينا النهاية التي تنتظرنا جميعا!
وعندما تذكرنا اننا نضحك وجثة أحد أصدقائنا الآن في الثلاجة ...تسرّب الحزن الينا لأقل من دقيقة، ثم عاد الصخب ثانية!
عجيب أمر الانسان الذي ينسى الموت بهذه البساطة، وكأن دوره لن يأتي، في هذا الطابور الطويل الممتد من أول الأرض الى نهايتها..
في يوم الاثنين استلمنا الجثة، وتم تغسيلها وتكفينها وصلينا عليها في مسجد ابراهيم الخليل، ثم وضعناها في احدى السيارات التابعة لشركة متخصصة في نقل الموتى ليجري ترحيلها الى العراق، بعد أن تُستكمل الاجراءات القانونية.
في نفس اليوم أُقيمتْ مراسم العزاء للفقيد في حسينية أهل البيت..
في اليوم الذي مات فيه الصديق أبو حسن، مات أيضا المفكر الايطالي والروائي الذائع الصيت " امبرتو ايكو " صاحب رواية" اسم الوردة" و " بندول فوكو " و "مقبرة براغ" وغيرها، وهو الروائي المرتحل عبر الزمان والمكان والأحداث التاريخية والسرديات الكبرى، والأكاديمي المتخصص في فلسفة وآداب القرون الوسطى.
لقد جمعهما الموت وسوف يلتقيان تحت الأرض!
الرحمة والمغفرة لصديقنا " أبو حسن ".