1
الهيئة الخارجية للانسان لا تدل على الدوام على بواطن صاحبها، وكثيرا ما يكون الظاهر المزوّق واجهة تخفي قبح السريرة، فالعمامة لا تعني ان مرتديها صورة أخرى عن الله، أو الوجه الآخر للاستقامة، فاللصوص في كثير من الأحيان يرتدون العمامة لمآرب أخرى.
لن أنسى ذلك الحمّال الشاب الذي رأيته ذات يوم في الشورجة أيام التسعينيات، كان يحمل كيسا بيده وهو يصيح: منو امضيعله جيس مال فلوس!!
استوقفني المشهد، في زمن كان الجوع قد خذل الوجوه ورسم أشكاله عليها.
كنت أراقبه عن قرب، وبعد فترة جاءه رجل فقد توازنه ويمشي مذعورا، كما يبدو من حركاته، فهو صاحب الكيس، لكن هيئته تشبه هيئة الحمّال!
اقتربتُ من الرجل وقلت له: هل أنت حقا صاحب الكيس؟
حينها قال لي بلهجة الناس البسطاء والدموع تترقرق في مآقيه: عمي الله كفيلك الفلوس مو مالتي، آني اشتغل يم تاجر وطلب مني أن اوصلها الى أحد اصدقائه في الشورجة، بس آني وكفت يم عربانة الجاي لأشرب استكان جاي وراح فكري بعيدْ ونسيتْ الجيس!
ثم احتدّ قائلا: عمي جا هذا الي ايسمونه الحصار بس على ولد الخايبة؟
قلت: كيف؟
قال: هاي الفلوس الي راح أوديها خسرهن البارحة الرجل إلي اشتغل عده بالقمار.. سمعته يحجي وي واحد بالتلفون ويكله البارحة خسرت هواي..
أخذ الرجل يقبّل الحمّال ثم دعاه الى استكان شاي.
وقال له: عمي اعذرني لو عندي افلوس جان اطيتك، آني مثلك اشتغل باليومية وبركَبتي عائلة تكسر الظهر.. أنت ابن أوادم والله ايكثّر من أمثالك...
حينها قلت للحمّال: لماذا لم تأخذ الفلوس وتذهب الى البيت؟
نظر اليّ نظرة استغراب قائلا: اليوم صاحب الجيس الكَاه بس باجر وين الكَاه!!
لم أفهم قصده أول الأمر.
ثم اضاف: يوم القيامة وين أروح من الله!!
لطمني جوابه، لم يكن جوابا، كان درسا مروّعا في الأخلاق والنبل.
2
حمّال لا يملك شيئا من حطام الدنيا، ويعثر على كيس من النقود، ثم يترفّع عنه ولم يترك فرصة للشياطين لكي توسوس في عقله؟!
انه درس للذين سقطوا في سراديب أنفسهم، الذين لا يبصرون إلاّ بريق الذهب، فهو البوصلة التي تحدد لهم معالم الطريق، إذ لا طريق سواه، هو الداعي الذي طالما استدعوه في يقظتهم وأحلامهم، أتراهم يخذلونه حين يلوّح لهم، وهم الغرقى في مستنقعات أنفسهم، وهو المنقذ؟
أينما حلّوا فانهم يفتشون أولا عن الأشياء التي يمكن سرقتها بسهولة ثم يلفقون المبررات لأنفسهم.
أولئك الذين ينظرون الى الأشياء بعقل اللص أو المهرّب، يسرقونها في خيالهم أولا، أشبه بمرتسمات على الورق، ثم يتحينون الفرصة، فان عزّت فانهم يصنعونها!
وهذا هو حال الذين يمسكون بزمام الأمور اليوم في العراق، عيون فارغة فراغا مروّعا، لا يردعهم رادع من ضمير و لا يخشون يوما يقفون فيه أمام رب العباد.
لقد أعطاني الحمّال صورة مشرقة للذات النقية المتعالية على أوساخ الحواس..
الحمّال، هذا الرجل الذي يحمل أثقاله وأثقال عائلته وأثقال الآخرين، وقبل ذلك يحمل ثقل ضميره ونقاء سريرته، لا يرتضي الحرام رزقا له ولم يفكر به من قبل، وليس ديدنه أن يفكر به، هو نموذج لكبرياء الذات التي لا ترضي الصغائر ولا تلوث نفسها به، وهو درس وأيّما درس!