1
لا أتذكّر إلاّ شبحها،أو بالأحرى صورتها الشبحية.
كنتُ صغيرا عندما ماتتْ.
لم أفقه معنى الموت حينها.
بل كنتُ العب مع الصغار أقراني، في مأتم أمي، ونقلد النسوة وهن يلطمن صدورهن.
كانت أختي حميدة تنهرني إلاّ انني أعاود اللعب مرة أخرى.
أُصيبتْ مبكرا بالسرطان، كانت في بداية الأربعينيات من عمرها، لم أفهم ما تعنيه الأمومة في ذلك الزمن، وربما اقتربتُ من التباس الكائن وهو يواجه الحياة بلا عدّة!
تعودتُ مبكرا ان ليس هنالك من ينتظرني أو يفرح لقدومي الى البيت، كنت طارئا على الأمكنة كأي زائر غريب.
لكن الصورة الشبحية لأمي تطاردني.
مازلتُ أتذكر الورم السرطاني الكبير الذي انتزعوه من رحمها.
كنت أحدق إلى هذه الكتلة الموضوعة في زجاجة في المستشفى الخاص " مستشفى فيضي " لصاحبه الدكتور المرحوم رافد صبحي أديب.
لقد استدان أبي مبلغ أربعمائة دينار لإجراء العملية، كان المبلغ كبيرا حينها ويقصم الظهر.
أراد أبي أن يبعدني عن هذا المستشفى فأعطاني ربع دينار، كان ذلك في أواخر الستينيات.
فرحتُ كثيرا بالمبلغ، فهو يعني لي أن العب بـ "المرجوحة" وهي عبارة عن حبل مشدود إلى عمودين، مع مقعد للجلوس، كانت منصوبة مقابل بيتنا، وهي لأرملة تعيل أطفالها منها.
كل مرة أصعد عليها تأخذ مني خمسة فلوس.
انتهزتُ الفرصة لأحلّق في " المرجوحة " وأهرب من المدرسة، خصوصا ان أبي كان مشغولا بأمي.
نسيتُ أمي، فالموت الواقف لها على الأبواب لا يعني شيئا لذلك الطفل!
ما معنى أن تكون طفلا وتموت أمك أمامك، ذلك السؤال لم أفهمه حينها، ولم أستوعبه فيما بعد؟!
كان سؤالا معلقا بين الوجود والعدم، بين أنا الكائن والقوى المحيطة به، بين ذاته التي تشكّلت بلا أمومة، وبين الآخرين الذين يزاحمونه بامهاتهم!
عندما ماتت أمي أخذت معها كل شيء ونسيتْ أن تأخذني معها، ربما كان ذلك شعوري في
ذلك الوقت!
2
أتذكر مرة في الصف الرابع الابتدائي ان أستاذ هاشم أمسكني من أذني قائلا لي: ألا توجد عندك أم تخيط لك أزرار قميصك المقطّعة؟
قلت له وأنا أتلوّى من الألم: أستاذ أمي ميتة.
فجأة ترك أذني وكأن جوابي كان صعقة كهربائية حلّت في جسده، ابتعد عني وذهب باتجاه السبورة، رأيت دموعا محتبسة في عينيه، وهو يحدق إليّ بنظرات ملؤها الأسى والشفقة.
في اليوم التالي جلب لي أستاذ هاشم قميصا جديدا وكنتُ موضع حسد الطلاب.
ربما تسرّب إليّ منذ تلك اللحظة ان الطفل الذي فقد أمه يستحق الشفقة!!
بعد سنوات أدركتُ معنى أن تكون بلا أم وكيف تكون منفيا في كل خطوة تخطوها بعيدا عن رائحتها.
ربما سرتُ لوحدي في الليالي المظلمة وأنا أحدق في نجمة صغيرة في هذا الفضاء الشاسع، معتقدا إنها مثلي تبحث عن أمها الضائعة!
عندما كنت أنام في حضنها كانت تروي لي حكايات النسر الذي هرب بالفتاة التي يحبها، ربما كان النسر هو الموت الذي هرب بجسد أمي وتركني أنظر إليه وهو يتوارى في الضباب.
صورة أمي في مخيلتي مختلطة بالموت الذي حلّ في غير أوانه، الموت النيء الذي لم يختمر بعد، وكأنه كان في عجلة من أمره، لقد خطفها خطفا.
ليس بمكنتك أن تداقع عن نفسك وأنت بلا أم،
فلا جدار لك في هذا العالم لتتكئ عليه، أمك هذا الجدار، وبدونه ستظل مكشوفا إلى أبد الآبدين!
الإنسان لا يحتاج أمه في الصغر فقط وإنما يحتاجها في الكبر أيضا،
فهي مرآة كونية يرى حياته برمتها، مبثوثة فيها.
الذي يفقد أمه مبكرا لا يعنيه الزمن ولا التقاويم،
سيظل هكذا طافيا على سطوح الأشياء، تقلّبه أنّى تشاء،
وربما لن يخرج معافى من صدماتها!
لا تكتمل بلاغة القول إلاّ حين تكون الأم أول الكلام وآخره..
وحدها الأم تملأ ثغرات الكون ومسامات الكائن.