1
كنا نتحدث مع صاحب الشركة التي تتعهد بنقل الموتى عبر البحار إلى أوطانهم الأصلية في مسجد الخليل في جنوب أستراليا، وكان تواجد صاحب الشركة الاسترالي معنا في المسجد هو لنقل جثة أحد أصدقائنا الذي توفي مؤخرا وكان ينتظر انتهائنا من تغسيل الجثة وتكفينها والصلاة عليها لترحيلها الى العراق..
فجأة طلب صديقي طارق الحارس من صاحب الشركة أن يعطيه الكارت الخاص بالشركة.
فقال له الرجل: وماذا تفعل به؟
قال صديقي: أتوقع أن يموت هذا قريبا وهو يشير إليّ!!
ضحك الرجل وضحكنا معا..
كانت تلك مزحة عابرة، أطلقها طارق الحارس، ولكن ماذا لو كانت هذه المزحة هي عبارة عن حقيقة تجلّت بصورتها تلك، أو هو تحذير أرادت أن تسوقه قوى خفية من خلال جملة صديقي العابرة؟
هذا هاجس أولي اشتغل في عقلي، ولكنني تكتمتُ عليه حينها، فالموضوع الآن لا يعدو عن كونه مجاملة مع صاحب الشركة.
أسئلة الموت لا تعني الموت ذاته، الموت خارج مدار الاسئلة، انه مبثوث فينا، وربما يضحك علينا ونحن نحاول أن نفلسفه!
ولأن هاجسا مضادا استغرق حواسي، طلبتُ من صاحب الشركة أن يعطيني كارت الشركة!
لا أعرف تفسير ذلك، ربما هو ردة فعل عمياء للموت الذي لا راد لفعله.
صاحب الشركة الاسترالي، الأنيق، الوسيم، ليس له علاقة بالموت رغم انه يتاجر به، الابتسامة لا تفارق محياه، وكأنه في حفلة وليس بصدد نقل جثة!
2
لقد خبرتُ الموت في الأيام الخوالي..فقد عشتُ معه طويلا وأتذكر احدى لحظات مهاجمته لي قبل أكثر من عشرين عاما:
كنتُ جالسا في سيارة متجهة من الكَيارة في مدينة الثورة الى باب المعظم.. شعرتُ ان شيئا يخرج من بين أصابعي ثم يصعد الى أعلى، وقبل أن يصل الى الصدر أتذكر اني صرختُ: الحكَوني راح أموت...
حينها اختفى العالم من أمامي..
قال لي صديقي أبو غايب الذي كان يجلس الى جواري في السيارة: لقد أنزلناك من السيارة.. ووضعناك على الأرض..
فقد كان الركاب في عجلة من أمرهم..
لا أعرف ماذا أفعل حينها وأين آخذك.. بقيت جالسا الى جوارك..
مرت أكثر من ثلاث ساعات وأنت على هذا الحال ثم أفقتَ أخيرا بانتفاضة من جسدك!!
لقد عدتَ الى الحياة ثانية!
قلت له: أتذكر انني صرختُ في السيارة الحكَوني راح أموت ثم لا أتذكر ما حدث بعدها..
وقبل أن أفيق رأيتُ العالم بياضا خالصا، الى أن أخذت الأشياء تتضح في عينيّ تدريجيا وأبصرتك الى جواري!!
فيما بعد سألتُ الكثير من الأطباء عن ما حدث لي وأجمعوا على ان تلك الحالة لم تكن فقدان وعي!!
حينها تيقنتُ ان الموت أراد أن يلعب معي لعبة عاجلة ثم تركني ومضى بعد أن أعطاني درسا..
كل ما نفعله ينتمي للموت بشكل أو بآخر ونحن محض كائنات ترعى في غابته، تتغير أشكالنا وألواننا الى أن تتطابق تماما مع لونه!
يشتري الكثير من الناس قبورا لهم قبل موتهم، والندرة منهم من يعرف معنى ذلك، لأن أغلبهم يستقتل على الحياة وامتيازاتها بشراهة عدوانية، وكأن القبر المُشترى محض زينة للوجاهة الاجتماعية!
قلت لصاحب الشركة: ماذا يعني لك الموت؟
ابتسم كعادته وقال: بزنس!
قلت له: نعم .. وهو عندنا أيضا بزنس.
قال: ماذا تقصد؟
قلت: اللصوص الذين يتاجرون بأرواح الناس.
قال: لم أفهم؟
قلت: وأنا ايضا لم أفهم!!