" هناكالكثير من الأسئلة ولكنها تخرس أمام جنازة شهيد من باعة أكياس النايلون.."
مقطع من رسالة لأحد ضحايا انفجار سوق اعريبهْ الأخير في مدينة الثورة...
1
صباح الخير أيها الموت، صباح الأزمنة الموكولة بك، وصباح النوايا التي تصنع طرازك في برمجة دؤوبة للإبادة، وصباح الأشلاء التي كلّلتْ هامتك. أنت تعرف طريقك إلينا، لا ريب في ذلك، وأولو الأمر، نائمون، لا يعرفون كم لبثوا في كهوفهم المحصّنة.. فأخلع عنك ما تتحجّب به، فأنت لعنتنا، ولا يليق بك هذا الحجاب!
من أين يبتدئ الحوار معك؟ هل يبتدئ من الجثث المتناثرة في سوق إعْرَيبهْ، أم من ضحايا جددينتظرون دورهم على توقيت الانفجار القادم، وأية أرقام تدّعيك أو تدّعيها، فثمة أرقام تُضاف اليك وثمة أرقام تُضاف إليها، وقد اختلف أولو الأمرحول شرعية هذه الأرقام!! ما الفرق بين فانتازيا المتخيل في أفلام الرعب وفانتازيا الإغارة على الحياة، وماهي المسافة بين استقدام الموت بالخيال وبين استقدامه بالصورة الواقعية الحية؟ إن صورتك، أيها الموت، أكبر من كل خيال وخيالكأكبر من كل فانتازيا، لكننا نعرف ان لامفر منك، لقد حفظنا هذا الدرس جيدا، ولكن هل تصلح هذه الحقيقة كمقدمة للتواطؤ على الإقصاء من الحياة؟! كل شيء يهتف لك وبك ولأجلك، وفي كل بيت لك سرير وشهوة محمومة ووجوه محدقه، فهنيئا لنا ربيعك فينا، فأنت مَنْ يواسي المنسيين على واجهة الحياة، يطرد عنهم الوحشة والرتابة وهزال أيامهم وظلام الليالي، فجميع الأبواب إُغلقت بوجوههم إلاّ ابوابك، ولأجل ذلك تكرّست مهرجاناتكبينهم! بريدك يتساقط علينا في جميع الفصول، فعندما يكون الموت مجانيا فان من الحمق أن تسأل عن أسبابه ودوافعه، انه موت لذات الموت، موت تزييني، من أجل بهرجة الغياب! لقد أدمنّاك أيها المقيم الماكث فينا، وغدوتَ سكرتنا الوحيدة، فلا تسمية لنا خارجك في هذه البقعة المجوفة المليئة بالكراهية والتي يمعن في توسيعها نواطيرنا!
أنت الوحيد الذي باستطاعته أن يلوّن أيامنا، فقد جعلوها مستباحة لك وحدك، وأصبحتْ الأرقام المنساقة الى المقابر مضمارا لتسمين سجلاتك وفي كل يوم تُفتتح لك مقبرة جديدة!.
2
انهم ينحتون أيامنا لتستحيل بعض مقتنيات متحف الموت المتجول هذا، فهل يكون التاريخ منتصرا وهو يسحل خلفه جثث الأبرياء؟ وهل تكون الحرية منتصرة وهي تستحم بدماء أبنائها؟
وهل تحتاج الحقيقة الى توصيف عندما تكون مرارتها في الأفواه؟ هذا التطويح المتصل لزحزحة المصائر، لا يحركنا سواه، وأجسادنا نُذُر الحصاد، فهل رأيتم حصادا كهذا، حيث تتكوم الجثث المقطّعة على بعضها؟! ولا أتذكر من قال: الموت فاكهة لا تنبت الاّ في حقول المعدمين!
تطرفت الحياة عندنا وأصبحت هَوَسا جنونيا، وحتى الأشجار تخلّتْ عن وظائفها الطبيعية من أجل تقديم دفعات يومية من التوابيت، وبتلك المهارة الفائقة نترقب فسائل الغد المزعوم!!
كل شيء خارج أوانه وخارج منطقته والأيام حواجز نتقافز عليها بأجسادنا الخائرةوالموت يتقافز معنا.. الموت يمر من هنا.. الموت يمر من هناك.. أجل تلك رائحته وطبوله ومراثيه.. نحن العميان، الذين أسلمنا أمرناللغمّان، الذين يتاجرونا بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.. الغمّان الذين قذف بهم حظنا الأعمى الى زمننا هذا الفاصل بين عماءين!
بيانات متلاحقة تصدرها الأطراف المتنازعة ولا أقول المختلفة، لأنه نزاع حول الفريسة وليس اختلافا فكريا أو مفاهيميا! البسطاء مَنْ يدفع ثمن هذا التهاوش والتناطح.. لم يتركوا في الوطن مقبضا معافى لنُمسك به! ليس هناك باب نستطيع أن نجرؤ ونقول انه بابنا! حكومة لا شغل لها إلاّ قطع الجسور المؤدية الى المنطقة الخضراء وذلك هو انجازها التاريخي الوحيد!!
يئست الناس وملّتْ وكرهت نفسها وهي تعيش في دوامة الطوارئ وانحباس الأنفاس.
ماذا يُرجّى من دولة ليس لها صوت يُعتدّ به، دولة لا تقول شيئا وهي تذعن لما يقوله سراقها، دولة لا يحترمها أحد ولايوقّرها العالم، دولة طال مكوثها على سرير الانعاش؟! ليس ثمة نهاية، كل شيء سائب، السائب يستدعي السائب، وهكذا كتب علينا أن نحيا في هذا الانفلات العظيم!.