خطوة جريئة تلك التي خطتها جمعية إنماء الشعر العربي، وبشتى صنوفه، وعلى رأسها الأديبة والأكاديمية الدكتورة بهية أبو حمد، حيث تم تكريم نخبة من الشعراء والكتاب والأكاديميين والفنانين من العراق ولبنان ومصر في البرلمان الاسترالي.
وهذا التكريم هو الأول من نوعه، حيث لم نسمع ان شاعرا أو كاتبا أو مثقفاتم تكريمه في برلمان! ذلك التكريم الذي قامت به جمعية انماء الشعر،فتح الباب واسعا لكل برلمانات العالم في أن تخطو الخطوة ذاتها.
كلنا يعلم ان صوت المبدع مُقصى في البرلمان، لا صوت إلاّ صوت السياسي، وثمة من يعتبر ان وجود المثقف والفنان لطخة في بياض البرلمان، لكن جميعة انماء الشعر اعادت الى المبدع اعتباره والى صوته رنته المجلجلة، وكأنها أرادت أن تقول: انتبهوا، لقد مضى زمان التهميش والاقصاء، لقد ذهب الزمن الذي يكون فيه المبدع ظلا للسياسي!
لقد تفاعل النشيد الوطني الاسترالي، في تلك الاحتفالية، معالنشيد الوطني اللبناني والمصري والعراقي.. وامتزجت الكلماتبذلك التاريخ الروحي لهذه البلدان وهي تجلجل في أقصى الكرة الارضية.
كان لحضور القنصل اللبناني العام الأستاذ جورج بيطار غانم، والقنصل العراقي العام الأستاذ باسم داوود والقنصل المصري العام الأستاذ يوسف شوقي، والعضو في المجلس التشريعي الأعلى في البرلمان الأسترالي، السيد شوكت مسلماني، ووزير التعليم في حكومة الظل السيد جهاد ديب، أثرا كبيرا في هذه الاحتفالية حيث غصّت قاعة الجوبلي Jubilee في مقر البرلمان الأسترالي بالحضور،لهذا الاحتفال التكريمي، لمجموعة كبيرة من المبدعين. كانت رئيسة الجمعية بهية أبو حمد، حمامة ترفرف بيننا، وهي تغمر المكان بهجة وحيوية وألفة، كانت توّاقه الى سماء تتسع لتحليق الجميع. بقوامها الجميل وطلعتها البهية التي تشبه اسمها، كانت تتلو أسماء المكرمين في البرلمان الاسترالي وكأنها هي المُكرّمة لا نحن.
كانت بمثابة فريق عمل اعلامي أو مؤسسة اعلامية، وعلاوة على ذلك فهي قاموس متجول للحب والجمال وقصائد العشق القادم من شتى المدونات التاريخية، حيث تتحفنا بين لحظة وأخرى بما تجود به ذاكرتها من نفائس الشعر العربي.
كما انها قامت ومن خلال جمعيتها، جمعية انماء الشعر، بوضع اللبناتالأساسية لمكتبة شاملة تكون بمثابة الخزانة لجمع تراث الأدب العربي في المهجر، تلك المكتبة التي ستكون مستقبلا مادة خصبة للباحثين والدارسين ورواد العلم والمعرفة.
أرادت أن تقول للجميع ان مايبدعه العربي في المهجر اوالمنفى هو ملك للأجيال المتعاقبة وعلينا ان لا نفرط به.
لقد تعلمنا من الثقافة العربية في بدايات القرن الماضي ان الأدباء اللبنانين هم من حمل راية " أدب المهجر" ولا يوجد أديب عربي لم يتأثر في بداياته بذلك الأدب، وخصوصا ما كتبه جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وايليا ابو ماضي.
ومازلنا نتذكر" الرابطة القلمية " لأدب المهجر" التي أُنشئت في نيويورك عام 1920 برئاسة جبران خليل جبران ومستشارها ميخائيل نعيمة والتي استطاعت أن تبثّ روحا تنويرية جديدة في الأدب العربي.
تسعى جمعية انماء الشعر ان ترتقي بالابداع العربي في المهجر الاسترالي، وأن لا يكون أثرا عابرايتناهبه الضياع، وعلينا أن نجعل منه ذاكرة للأجيال اللاحقة.. تحية لجمعية انماء الشعر العربي وللدكتورة بهية أبو حمد.
العلم العراقي والسلام الجمهوري
في قاعة البرلمان الاسترالي
عندما تشاهد علم بلادك في الغربة يرفّ قلبك دون وعي منك،أما حين تسمع النشيد الوطني فتنتابك على الفور قشعريرة، وتبقى تتخبط في مكانك كالممسوس. النشيد الوطني مثل العلم كلاهما رمز السيادة وهما يختزلان الهوية الوطنية. ان تقف في حضرة العلم لا يعني انك تقف اجلالا للحكومة ولا تبجيلا للقائد الأوحد، انك تقف تقديسا وتعظيما للوطن، وعندما تشخص قامتك للنشيد الوطني، لا يعني انك تهتف لخطبة سياسي أو تصفّق في حضرة مسؤول ما، وانما تتمثّل كل خفقة من خفقات هذا الوطن،تسترد هيبتك ونقاء الأرض التي ترعرعتّ فيها.كل نغمة من نغمات النشيد تعني ذرة من تراب الوطن، انه روح السلالات المتعاقبة التي احتشدت فيه. في اللحظة التي سمعتُ فيها ذلك النشيد تناهى إليّ تاريخنا برمته وهو يتقافز منذ بدء عصر السلالات الى هذه اللحظة، رأيتُ الجنود على السواتر وهم يتساقطون وعيونهم شاخصة نحو المجهول.
رأيتُ دجلة والفرات، وكان الرذاذ المتساقط من ضفتيهما يملأ قاعة البرلمان الاسترالي.. أجل.. رأيتهما يرقصان بحرية بعيدا عن أحقاد الطوائف، بعيدا عن الجثث المغدورة الغاطسةفي أعماقيهما، رأيتهما يذوبان في الأوقيانوس العظيم.
كنا نردّد كلمات النشيد بخشوع وهيبة، فهو ليس مجرد كلمات، انه روح متحوّلة من أول التاريخ حتى آخره.
النشيد لسان الوطن الناطق فكيف لا تهفو حواسي إليه؟
****
في أزمنة الدكتاتورية تصبح الحياةكابوسا يهدّد الجميع وتصبح جملة: أنا الوطن والوطن أنا..احتكارا لكل رموزه المقدسة، لكن رموز الوطن فوق كل الدكتاتوريات وفوق كل سلطة. " الوطن هو الاتجاهات الأربعة لكل من يطلب اتجاها" كما تقول الحكمة!
في حضرة العلم تتضح الأبعاد جميعا وأنت ترنو اليها كما ترنو الى حلم الطفولة، الى ذلك الكائن الذي كنته والكيان الذي صرته. كان الماضي يتراقص أمامي على كلمات النشيد وكنتُ كمن عثرعلى النبع في صحراء لا حدود لها!
نعم كان العلم حاضرا.. والنشيد الوطني مُرَدَّدا.. وكانت الروح محلّقة وهي تتهجّى أسماء من مروا هناك وحفروا بأزاميلهم تاريخا موغلا في القدم، رأيتُ الافواج السائرة الى حتفها، رأيتُ القيامة التي قامت مرارا في تلك البقعة التي لم تفارقها المرارة والمكائد ودسائس المتربصين بها، تذكرتُأصدقائي واحدا واحدا، أصدقائي الذين يلوّحون لي من وراء الجهات المسوّرة بالخوف واللعنة!
عندما تكون معلّقا في مكان أتيتَإليه مُكرها فانك تحاول البحث وبشراسة عن خيط يربطك بماضيك، ذلك الماضي الذي شرّدك واستلبك واستباحك وأجهز على أعماقك وقتلك مرارا، فهل رأيتم ضحية تحن الى قاتلها؟!