1
عندما تشاهد علم بلادك في الغربة يرفّ قلبك دون وعي منك، أما حين تسمع النشيد الوطني فتنتابك على الفور قشعريرة، وتبقى تتخبط في مكانك كالممسوس.
النشيد الوطني مثل العلم كلاهما رمز السيادة وهما يختزلان الهوية الوطنية.
ثمة دول لم يتبقَ لها إلاّ النشيد والعلم وما تبقّى محض خرائب وبؤس!!
ان تقف في حضرة العلم لا يعني انك تقف اجلالا للحكومة ولا تبجيلا للقائد الأوحد، انك تقف تقديسا وتعظيما للوطن، وعندما تشخص قامتك للنشيد الوطني، لا يعني انك تهتف لخطبة سياسي أو تصفّق في حضرة مسؤول ما، وانما تتمثّل كل خفقة من خفقات هذا الوطن، تسترد هيبتك ونقاء الأرض التي ترعرعتّ فيها.
كل نغمة من نغمات النشيد تعني ذرة من تراب الوطن، انه روح السلالات المتعاقبة التي احتشدت فيه.
في اللحظة التي سمعتُ فيها ذلك النشيد تناهى إليّ تاريخنا برمته وهو يتقافز منذ بدء عصر السلالات الى هذه اللحظة، رأيتُ الجنود على السواتر وهم يتساقطون وعيونهم شاخصة نحو المجهول.
رأيتُ دجلة والفرات، وكان الرذاذ المتساقط من ضفتيهما يملأ قاعة البرلمان الاسترالي..
أجل.. رأيتهما يرقصان بحرية بعيدا عن أحقاد الطوائف، بعيدا عن الجثث المغدورة الغاطسة في أعماقيهما، رأيتهما يذوبان في الأوقيانوس العظيم.
كنا نردّد كلمات النشيد بخشوع وهيبة، فهو ليس مجرد كلمات، انه روح متحوّلة من أول التاريخ حتى آخره.
النشيد لسان الوطن الناطق فكيف لا تهفو حواسي إليه؟
2
في أزمنة الدكتاتورية تصبح الحياة كابوسا يهدّد الجميع وتصبح جملة: أنا الوطن والوطن أنا.. احتكارا لكل رموزه المقدسة، لكن رموز الوطن فوق كل الدكتاتوريات وفوق كل سلطة.
" الوطن هو الاتجاهات الأربعة لكل من يطلب اتجاها" كما تقول الحكمة!
في حضرة العلم تتضح الأبعاد جميعا وأنت ترنو اليها كما ترنو الى حلم الطفولة، الى ذلك الكائن الذي كنته والكيان الذي صرته.
كان الماضي يتراقص أمامي على كلمات النشيد وكنتُ كمن عثر على النبع في صحراء لا حدود لها!
نعم كان العلم حاضرا.. والنشيد الوطني مُرَدَّدا.. وكانت الروح محلّقة وهي تتهجّى أسماء من مروا هناك وحفروا بأزاميلهم تاريخا موغلا في القدم، رأيتُ الافواج السائرة الى حتفها، رأيتُ القيامة التي قامت مرارا في تلك البقعة التي لم تفارقها المرارة والمكائد ودسائس المتربصين بها، تذكرتُ أصدقائي واحدا واحدا، أصدقائي الذين يلوّحون لي من وراء الجهات المسوّرة بالخوف واللعنة!
عندما تكون معلّقا في مكان أتيتَ إليه مُكرها فانك تحاول البحث وبشراسة عن خيط يربطك بماضيك، ذلك الماضي الذي شرّدك واستلبك واستباحك وأجهز على أعماقك وقتلك مرارا، فهل رأيتم ضحية تحن الى قاتلها؟!
*شكرا لسفيرة السلام ومؤسسة جمعية إنماء الشعر الدكتورة بهية أبو حمد التي أقامت هذه الاحتفالية في البرلمان الاسترالي.