1
لا أدري ما الذي كان يدور في عقل أبي عندما أطلق عليّ هذا الاسم، ربما كانت موضة تلك الأيام أن يُسمّى الشخص بأسماء الرؤساءالذين كانوا يخبصون العالم، ولا أقول يتحكمون فيه أو يصنعونه!!
وهكذا ولدتُ في زمن كان فيه اسم جمال عبد الناصر تردّده الاذاعات.
اسم " جمال " كان غريبا على بيئتنا الشعبيةولم يكن أبي سياسيا ولا شأن له بها، وقد أمضى حياته شرطيا ينفذ الأوامر.. لقد أهدتني الاذاعة هذا الاسم،فحملته كمن يحمل شيئا غريبا عليه، وإلاّ فما علاقتي بالجمال وكنتُ ذلك الكائن الأملح الهزيل هزالا شديدا، والذي ينتمي للمقبرة أكثر من انتمائه للحياة!
ربما تراءيتُ لهم لحظة الولادة على غير ما أنا عليه فاشتبه عليهم أمري!
حين اختلط آباؤنا القادمون من الريف بالمدينة سطوا على أسماء أبنائها، بل أصبح الاسم مدعاة للتباهي والتفاخر والوجاهة الاجتماعية، لكن بعض الأسماء التي تم السطو عليها أصبحت محل تندر وسخرية في بيئاتنا المغرقة في محليتها!! كان أهلنا يحتالون دوما على الحياة التي تصر على أن تقذفهم خارجها، ولذلك منحوني هذا الاسم الذي هو كذبة كبرى في ذلك الزمن!
ماذا يجدي الاسم ونحن أبناء الفقر المزمن وسوء التغذية والبرك الآسنة المأهولة بكل انواع الحشرات، هذه الحشرات التي لم تترك بقعة من أجسادنا إلاّ ورسمت عليها علامة ما، فكأنها تتآمر على الهيئة الخارجية للانسان فتراه بلا هيئة حقيقية يُستدل بها عليه، هو محض كائن هلامي لا تفارقه الصفرة فيبدو أكثر شيخوخة من زمنه!
لم يكن وجهي ناصع البياض ولا أمتلك عينين ملونتين ولا جهرة تسر الناظرين، فلماذا يحشرون الجمال في اسمي ويجعلونني عبئا عليه!
ولأن حياتنا كانت أشبه بخديعة كبيرة فلا بأس أن تستمر الخديعة في كل شيء حتى بالأسماء!
في الجامعة وجدتُ أسماء تستحق مسمّاها، كانت بيننا طالبة اسمها فينوس فكانت آلهة الجمال بحق! العوز لا يصنع إلاّ الوجوه المجعمرة، وان وجدتَ وجها مختلفا فما ذلك إلاّ نتيجة طفرة وراثية سببها العثمانيون والانكليز الذين استوطنوا البلاد، وإلاّ فهل يعقل ان أقرب أقاربي عيونهم ملوّنة وبشرتهمأوربية خالصة!
الحياة دوّامة مفزعة للأسماء، فهناك أسماء تسير على رؤوس أصابعها وكأن وجودها أو عدمه سواء، وهناك أسماء هي نُذر الحروب، فما أن تنطقها حتى تتساقط جثث الضحايا، وثمة أسماء تجعلك تكفر بكل شيء!
كم كنتُ أتمنى أن أكون بلا اسم، ذلك الكائن اللامسمّى، الذي تحدث عنه كولن ولسن في كتابه اللامنتمي!
كنتُ أعلم ان الأسماء التي تتساقط لا شفيع لها، فالجثة وحدها ترث اسم صاحبها، بمعنى ان اسم الشخص سيصبح في نهاية المطاف اسم جثته، وربما تُجبر الجثة على حمل هذا الاسم عقوبة لها!
سيبقى الاسم لصيقا بك، وهو وحده من يدخل معك الى القبر، وربما تُنادى به يوم الوقفة الكبرى!
هناك أسماء هي شُبهة للكائن، بل تضعه في موضع شبهة دائمة، وربما تصبح حياته اللاحقة ازالة شبة الاسم عنه!
ولأننا لا نملك أي شيء في هذا الوجود فاننا نسعى الى مزاحمة العالم بأسمائنا، ومااصرارنا على ترسيخ ذلك الاسم كما يفعل البعض، خصوصا في الحقل الثقافي، إلاّ نتيجة للحرمان. الذي يركض وراء اسمه بلا هوادة يفضحه ذلك الحرمان!.
ليس في نية أبي هذا الاسم، ولكن واقع الحال اقترحه عليه ليوحي للآخرين بانه على دراية بما يجري ويحدثْ وان له رأيا في مجريات الأمور!
لقد رحل أبي مبكرا ولم أكن بذلك الوعي الذي يؤهلني لكي أسأله عن هذا الاسم، فغالبا ما تأتي الأسئلة بعد فوات الأوان. أحيانا يبدو الاسم كتهمة عن جريمة لم تقترفها، فما ينطق أحدهم اسمك في محفل ما، حتى يحدق فيك الآخرون بريبة!
غالبا ما يكون الانسان محشورا في اسمه، وفي قرارة نفسه يسعى للتخلص منه، خصوصا اذا كان الاسم من الأسماء الصارخة، البراقة، التي تستوقف الآخرين وتجبرهم على الالتفات، فأنتَ اذا سمعتَ ان هناك فتاة اسمها " شمس" لابد أن تلتفت اليها لترى هل هي جديرة بهذا الاسم حقا، أم انها من متعلقات الظلام!
هنا في استراليا تستطيع أن تغير اسمك بسهولة وتتحرر من أغلاله، ولكن ما جدوى أن تغيّره وقطار العمر مضى ولا يعنيك ان كنتَ باسم أو بدونه، مادام هناك أبناء الغوا اسمك، وأصبحتَ تكنّى بأسمائهم!
في أحيان كثيرة يكون الاسم جاهزا ومُعّدا من قبل الذاكرة الجمعية والمخيال الشعبي، فمحمد يسبقه اسم ابنه " جاسم " حتى قبل أن يولد، لذلك فهو أبو جاسم، وعلي أبو حسين، وسلمان أبو داوود، وكاظم أبو جواد وهكذا،وغالبا ما يستجيب الأب لهذا الموروث بلا ارادة منه، مثلما استجبتُ أنا وسمّيت ابني "خالد"!!
لقد عشنا في زمن كانت فيه الأسماء الصحراوية هي التي لها الحظوة في الحياة، وهي التي تختصر كل مسمّى!!
في مجتمع العبيد لا تجدي الأسماء فهي تتمة لطقوس العبودية!!.