1
تربّينا وترعرعنا في بيئتنا على الخوف من السيد، أي سيد كان، فهو ابن رسول الله، ايشور بيك، ويعثركْ ويطيّح حظك!!
مُذْ كنا صغارا، في مدننا الضيّقة، صوروا لنا السيد على انه إله يمشي على الأرض، فهو مؤله ومقدس ولابد من الاذعان له وتوقيره واجلاله ولا قول إلاّ قوله، فهو الناطق الرسمي باسم المقدس وحامي حمى الدين، بل هو الدين كله!
دعاؤه مستجاب وأوامره مطاعة، هو الفيصل إن اشتبكتْ الأمور.
ثمة هالة مقدسة تحفّ به ونور رباني يغمره!
بيته مزار تأوي إليه الخلائق وتتبرك به، وتضع على جدرانه الحناء وتعلّق على سطحه الأقمشة الخضراء وتعطيه النذور.
السيد هو السيد وان كان لصا أو قاطع طريق، فنسبه الى رسول الله يعفيه من كل التبعات!
السيد فوق الشبهات والظنون المريبة، عليك أن تضع مسافة بينك وبينه، هذه المسافة هي حصة الإلهي الذي يتلبّسه!
السيد يضع علامة فارقة على رأسه أو على كتفيه، علامة تميزه عن العوام والقطيع البشري، وغالبا ما تكون خضراء، وبها يستدل عليه الناس والملائكة!!
ما يقوله السيد مثالا يُحتذى، لابد أن نركن اليه مغمّضي الأعين بلا سؤال ولا مساءلة.
لابد أن يتقدمنا السيد حتى ولو كان دليلنا الى الهاوية.
تعلمنا أن نكون تابعين له، فهو وحده الذي يرى الله في مرآته!!
السيد عندنا أكثر هيبة من العالم والمفكّر وكل مختبرات الكون!
كنتُ صغيرا عندما اقتادوني الى السيد، وضع يده على رأسي وأخذ يتمتم بينه وبين نفسه ليشفيني من المرض الذي ألمّ بي، الذهاب الى السيد أفضل من الذهاب الى الطبيب، تلك قناعات المجتمع في ذلك الزمن وربما إلى الآن!
السيد يفتي في كل شيء فهو مستودع كل شيء وقد ائتمنه الخالق على ودائعه ونحن جزء من هذه الودائع!
كان أهلنا ضحايا الجهل وقد أورثونا جهلهم.. فكّكوا أدمغتنا وحشوها حشوا تاما بوصايا السيد، أيّا كان، فما حاجتنا الى المعرفة وخرافات وخزعبلات السيد هي التي تسوس أيامنا؟
2
في أحد المآتم صحّحتُ للسيد آيات قرآنية قرأها خطأ، فما كان منه إلاّ ان انتفض، كمن لدغته أفعى، وهاجمني بطريقة عدوانية، بل أخذ يتعوذ مني ويؤلّب الناس ضدي، فكيف لي وأنا الصغير أن أتجاوز على دائرة معلومات السيد التي لا يأتيها الباطل!! حينها انقلبتْ الدنيا رأسا على عقب، وأخذ جميع من في المأتم يحدق إليّ بعيون مقلوبة، وكأنني أتيتُ شيئا نُكرا!!
رأيتُ "العُكُل" تتزحزح من على الرؤوس، وخُيّل لي انها حلّقتْ في الفضاء، ثم تشكّلت على هيئة مشنقة علّقتني بين الأرض والسماء!!
وبسرعة البرق انتشر الخبر في المدينة فأصبحتُ منبوذا يتحاشاني الجميع رغم ان ذلك السيد لا يعرف القراءة والكتابة ومعرفته لا تتعدى حدود الدربونة التي يعيش فيها ولا يجيد أية مهنة وهو يعيش عالة على المدينة ومؤخرته تكفي لأن تطعم قطيعا من الذئاب الجائعة!!
ابتعد عني أصدقائي المقربون وكفّتْ النسوة عن المجيء الى بيتنا وأُفردنا افراد البعير المعبّد!!
أصبح بيتنا مأوى للشياطين والأبالسة!
ليس لنا إلاّ الرحيل من هذه المدينة التي كفّرتنا وأصبحنا بين ليلة وضحاها من أهل جهنم!!
لم يبقَ لهم إلاّ أن يكتبوا وثيقة ويعلقونها عند مدخل المدينة تحذر الغرباء والشحاذين من الاقتراب من بيتنا!!
ومن تلك اللحظة كرهتُ الشخص الذي يدّعي التسيّد والسيادة ويقدم نفسه على انه سيد قبل أن يعرّفني بشخصيته وماهيته!!
ارتبط الدين عندنا باللقب فكون الرجل سيدا فهذا يعني انه من أهل الجنة خالدا فيها، رغم ان الكثير منهم يخدعون الناس ويقشمرونهم في وضح النهار.
كلمة السيد في المجتمع الجاهل لها دوي يصم الاذان، هي كلمة سحرية، على الجميع أن يعقلها ويؤمن بها بلا مقدمات!
ينبغي أن ننظر الى السيد على انه صانع للتاريخ والمتحكم بهذه الدراما الكونية، هو الرجل الكامل المكتمل الوارث لكل الأديان والحكايات والمرويات. السيد تحفّه أبّهة ما، رائحة قادمة من الماوراء، وما عليك إلاّ أن تخنسْ في حضرته لتتلقف الجواهر والدرر فيما يقول، حتى اذا كان ما يقول من سقط الكلام!
بعض السادة ينتشي بكلمة مولاي ويطير بها، فهي تعني اننا نؤمن بفرادته وتفرده وندرته، ووجوده بيننا نعمة علينا أن نشكر الخالق إذْ أنعمها علينا!
فصائل تتراكض وراء السيد لتقبّل يده وتتمسّح بأردانه فكأنه حامل راية المعرفة والعرفان وآخر مبتكرات الحضارة والتكنلوجيا!!
الجهلاء يصنعون من السيد رمزا يسلّمون أمرهم إليه، فمهما حلّقتْ ذواتهم فهي لا ترقى اليه، ومن المحال أن تبلغه، فما هم إلاّ نقصان أزلي في حضرته.
وستظل تلك الفكرة بمثابة الترنيمة التي يورثها الجيل السابق للأجيال اللاحقة!
كلمة السيد تحيل الى العبد والعبودية، وإلاّ لماذا يصر البعض على تقديم نفسه على انه سيد قبل أن يعرفنا مَنْ هو وما موقعه من الاعراب؟
سادة الحكم نهبوا العراق، بل قلبوه على البطانة!!