1
في بداية الثمانينيات عرفتُ خضير ميري، في هذا الزمن الذي لا لغة تعلو فيه على لغة الموت والحرب والقائد الأوحد.
الكتب الفلسفية التي قرأها مبكرا جعلته يعيش في أزمنة الفلسفة محاولا استعادتها.
اكتشفتُ بانه شخصية محيّرة، شخصية تربّي الأضداد في داخلها، مثل أم ترعى أطفالها المختلفين في كل شيء!
كان يقول الأشياء دفعة واحدة، ثم يضعك في التباسها، وغالبا ما يقودك الى استطرادات تجعلك مذبذبا فيما يقوله.
لا تعنيه النهايات قدر ما يعنيه الاستطراد.
عندما تضع أصدقاءك في خانات معينة يبقى خضير ميري عصيا على التصنيف في أية خانة..
في جنونه المفتعل، أراد أن يجد متنفسا آخر يستغفل كل رقابة، ولكن الرقيب في داخله يقظ على الدوام! تمثيله لدور الجنون هو آلية وقائية دفاعية لحماية نفسه من الانخراط في الثكنة العسكرية والابقاء على الذات خارج فزع الحروب المجانية.
وهكذا انهمك ميري في ذلك الدور، الذي أخذ منه زمنا، وهو يتابع خيوط النمل أو يلاحق حلقات الدخان المنبعثة من سجائره في الشماعية أو معتقلات الأمن، كما يقول، ليوهمهم بالجنون؟!
لم يمارس دور المجنون في الشارع على الاطلاق، كان جنونه في الأماكن الخاصة وليست العامة. جنونه كان مفصّلا على قياسه، وكان يضع حدودا صارمة له، ولهذا كان حريصا أن يكون جنونه محميّا بجدران أربعة حين دخل مستشفى الأمراض العقلية!!
اغواء اللغة يأخذه بعيدا فيستسلم له بسهولة وخصوصا في كتاباته النثرية، ففي الكثير من نصوصه المنشورة تراه يغدق اللغة بسخاء استثنائي. كان متشبثا بيومه وكأنه الزمن برمته ويحرص على أن لا يفوته شيء من ثمالته!
2
الحوار الفلسفي شاغله مع أي كان، كان يريد أن يقول نفسه حتى لو كان هذا القول لا يعني أحدا..
في عمّان جمعتني به أماكن مختلفة، فأيقنتُ انه نفس الرجل الذي عرفته فيما مضى، وكنتُ التقيه في بارات ابي نؤاس، وكان حديثه لا ينقطع عن نيتشة، وكنا مشغولين بمصائرنا الخاصة، لكنه كان منشغلا بأبطاله الاسطوريين!
كان رجلا بلا أعداء، وصديق الجميع بلا استثناء، لأنه ليس عدائيا في تكوينه ولا في حواراته ولا يستعرض معلوماته الفلسفية بتعالٍ كما يفعل البعض! كانت الفلسفة تمنحه فضاء للمناورة وتفادي الاشتباك مع الآخر.. في سلوكه اليومي يعرف ما يريد وربما وظّف معلوماته الفلسفية في خدمة هذا السلوك.. مرة دخلتُ الى اتحاد الأدباء العراقيين صباحا في أواخر التسعينيات، لأمر يتعلق بتجديد هويتي، فوجدته منشغلا في القاعة وقد أخبرني ان فريق التصوير التلفزيوني جاهز لتصوير حديث معه عن الفلسفة، وكان الجوع قد أخذ مأخذه من الناس في تلك الفترة.
قلت له حينها: لماذا لا تتحدث عن فلسفة الجوع!!
ضحك ضحكة عريضة قائلا لي: ناصرية، خباثة!!
ثمة مبالغات كثيرة فيما رواه ميري، لأنه صرّح أكثر من مرة ان رواية الأحداث لا ينبغي أن تكون خالية من الأكاذيب!!
ربما كان ذلك ترجمة لفكرة اننا نحيا بالاكاذيب، فهو لا يريد أن يروي الحقيقة كما هي لأنها ستظل باهتة دون أن نطليها بدهان الأكاذيب!! لا اعتقد انه كان يصدّق ما يقوله وما يرويه، وكان مؤمنا بقول سارتر: التفاصيل لا تعنيني فأنا أتركها لشهود الزور!!
في حواراته كان يبتكر لحظته الخاصة التي تجعله طافيا على سطوح اللغة، يتشكّل فيها بأكثر من مظهر وأحيانا يفتح لك منفذا لتهرب منه ويهرّب نفسه.
الرجل لا يدعو الى نظرية، كان سائحا وجوّالا في أقاليم الفلسفة، يعرض بضاعتها في كل محفل، ولك أن تسلك اي طريق دون وصاية.
خضير ميري، المجنون الأنيق على الدوام!!
والحريص على أن تسبقه كلمة الجنون أينما حل.
كان طائرا بلا وجهة، ما يعنيه هو أن يظل محلّقا على الدوام، وهكذا استغرقه تحليقه.
هناك مصادفة غريبة حدثت بيني وبينه، ففي أحد الأيام رأيتُ أوراقا تتطاير على أطراف منطقة بغداد الجديدة، وكنتُ حينها أجلس مع أصدقائي المشردين ونحتسي خمر البعشيقة، وقد جمعني الفضول لالتقاطها وهكذا التقطتُ عددا من الأوراق، وكانت مكتوبة بقلم الحبر، وقد قرأتُ فيها اسم ميشيل فوكو ثم أنتبهتُ الى رجل نحيف يركض خلف هذه الأوراق، كان هذا الرجل هو خضير ميري، وقد صرخ حين رآني قائلا: أية مصادفة غريبة هذه! وقد عرفتُ منه ان هذه الأوراق هي مسودات لكتابه: التعقيب على فوكو.
تذكرنا هذه الحادثة في عمان وضحكنا كثيرا.
وقد أدركتُ أخيرا ان هذه الأوراق هي أوراق حياته المتطايرة التي ليس بمقدوره أن يجمعها بعد الآن!!