1
قبل 2003 كان أحمد الجلبي، وهو من عائلة عراقية نبيلة معروفة، هيبة المعارضة العراقية وعرّابها بلا منازع.. رأى فيه الأعداء والأصدقاء، الشعلة التي تتقدمهم باتجاه أبواب القلعة الموصدة!
ولم يعلم انهم اتخذوه كاسحة الغام، وربما كبش فداء!
الرجل يحمل دكتوراه في الرياضيات من أرقى جامعات العالم، والاسلامويون الذين من حوله، لم يزوّروا شهاداتهم بعد، ولم يهتدوا الى سوق مريدي الذي منحهم الألقاب العلمية!!
ازاحة الطاغية، بالنسبة للمنافقين الذين ركبوا الموجة، كانت النية المعلنة لهم، أما النوايا المبيّتة فهي شأن آخر، لا يعلم به حتى الراسخون في العلم!!
معظمهم خريجو روزوخونيات لاشأن لها بالدولة وفلسفة الحكم وادارة دفة البلاد. وأقصى أمانيّهم حسينية يلطمون فيها على امتداد السنة!
الجميع كان يبحث عن منقذ، فما شأن هذا المنقذ اذا كان الذين ارتدوا مسوح الدين يبيّتون للظفر بالغنيمة التي اختلفوا عليها لاحقا؟
أراد الجلبي أن ينقذ العراق من أورامه، لكن الذين معه كانوا يخبئون الأوبئة تحت جببهم ولحاهم وجباههم المكويّة..
حظه السيء جمعه مع شذّاذ الآفاق وذباب الأسواق..
عندما تطفو القاذورات على السطوح فكيف لنا أن نكتب تاريخها، وهل لها شأن بكتابة التاريخ، شأنها الوحيد هو المضي باتجاه مستودعها، انها لا تخلّف لنا الا براميل القمامة، فلماذا يصر الكثير منهم على أن يتخذ من هذه البراميل منابر ليتلو علينا بياناته وبطولاته الاستعراضية وخدماته الجهادية ونحن نعلم ان - هذا الكثير - أيام المعارضة، محض أرقام فائضة لا تقدم ولا تؤخر؟!
2
مشوا خلف الجلبي مغمضي الأعين، فلولاه ولولا استماتته، لما كان هذا الحشد الدولي الذي أطاح بالطاغية، وقد أكد ذلك الطاغية علانية أثناء محاكمته، حيث قال للقاضي في المحكمة:
والله لولا أمريكا، لا تقدر لا أنت ولا أبوك اتجيبني للمحكمة!!
وما قاله الطاغية، ذكرني بقصة قصيرة للقاص العراقي المرحوم حمد صالح قرأتها منذ زمن بعيد، وفحوى القصة ان مجاعة حدثت في القرى، فطلب شيخ احدى القرى المنعزلة، وكان حكيما، أن يبنوا سورا حول القرية، فالذئاب الجائعة ستهاجم هذه القرية المنعزلة لا محالة، وهكذا بنوا السور، وقد حدث ما توقعه الشيخ، حيث تجمعت الذئاب حول هذا السور وأمرهم الشيخ أن يلقوا الفطائس وما يتبقّى لديهم من فتات الى هذه الذئاب. كان بعض الذئاب لا يأكل الفطائس والفتات، فكبرياؤه لا يسمح له، وانما يقفز من أعلى السور، حينها يقتله الحراس ويرمون به خارج السور ليصبح طعاما للذئاب الأخرى. أما البعض الآخر من الذئاب فكان يأكل ما يُلقى له.
مرت أشهر وليس هناك ذئاب تقفز من على السور وانما فقط ذئاب مستكينة تطمئن لما يلقى لها من فضلات وهي تأكلها بتلذذ وشهية وتهز ذيولها عرفانا وامتنانا، حينها قال لهم الشيخ: الآن أزيلوا السور.
فقال له الرجال: ولكن الذئاب مازالت خلف السور؟
فقال الشيخ: هذه ليست ذئاب وانما كلاب مدجنة، الذئاب الحقيقية هي التي قفزت من على السور!!
وهذا بالضبط ما أراد أن يقوله الطاغية عن العراقيين، الذين لا حول لهم ولا قوة، للقاضي في محاكمته تلك!
3
الذين لعنوا الجلبي وجثته لم تزل طازجة لم تُدفن بعد هم أصناف:
فمنهم من يريد الحياة مسيرة راجلة في ظلال الحيطان بحثا عن الأمان الذي هو أشبه بأمان الكلاب الداجنة، ومنهم من فقد امتيازاته ومنصبه في ظل النظام السابق غير آبه لمجرى الدم الذي يسير من حوله طالما ان ذلك النظام يوفر له حياة مرفهة، ومنهم الوشاة وكتاب التقارير الذين فقدوا مهنهم التي تحقق لهم توازنا نفسيا، ومنهم من فشل في اختبارات الحياة ولم يجد أمامه إلاّ ارتداء الزيتوني ليل نهار حتى وهو على فراش النوم، ومنهم الطائفيون الذين يبثون السموم المذهبية، ومنهم من هرب خارج العراق لأنه من القتلة المعروفين للناس، ومنهم التجار الذين يتاجرون بالمصائر البشرية، ومنهم القوادون الذين يوفرون العاهرات لأركان النظام السابق ومنهم باعة الضمير وشهود الزور، هؤلاء جميعا لعنوا الجلبي..
وأعرف الكثير منهم وأعرف أين كانوا يعملون!!!
أما الانسان الشريف الذي تجرّع الأمرّين وهو يطارد لقمة الخبز فهو يسعى الى الخلاص من هذا الذل اليومي وضياع العمر في الجوع ومتاهة الحروب.. الخلاص.. الخلاص.. ولا شيء إلاّ الخلاص من الطاغية ومهما كان الثمن..
أكرر:
ومهما كان الثمـن!!.
فهل ذنب الجلبي، ان الذين كانوا يحيطون به في المعارضة، أولئك الذين تلبّسوا هيئة رجال الدين، كانوا يخفون شياطينهم؟!
وهم الذين كانوا يصرخون ليل نهار:
الشيطان أرحم من الطاغية.
وهل ذنب الجلبي ان الشعب ينتخب اللصوص دائما ويهتف للذين يخدعونه؟
ليست العقول هي التي تتحدث عندنا وانما المصالح والمنافع والأهواء الشخصية والمزاج المتقلّب.
خرج الجلبي من العراق عام 1958 وربما لا يعرف معرفة حقيقية عن الشخصية العراقية التي مُسخت مسخا تاما في ظل حكم العشيرة.. وأكَضب شواربك!
الخطأ القاتل الذي ارتكبه الجلبي، ومن أين له أن يقرأ النوايا، هو وجوده بين هؤلاء الحرامية وسقط المتاع وهو العالم بالرياضيات التي هي لغة العصر الذي نعيشه، وهم يعيشون في أكاذيب التاريخ ويزيدون عليها ويخدّرون أتباعهم بها!.