1
كنا جنودا في جريدة القادسية التي تصدرها دائرة التوجيه السياسي في وزارة الدفاع، في الأيام الخوالي، وكان معي بعض الأصدقاء الذين يعملون في أقسام الجريدة الأخرى وكان حديثنا عن الكُنى والألقاب.
تطرقنا الى كنية الذئب أبو سرحان والديك أبو المنذر والثعلب أبو الحصّين.. و.. و..
حينها قلت لهم: هل تعرفون ما هي كنية البرغوث؟
فقالوا: ماهي؟
قلت: كنيته المشهور بها هي "أبو عدي"!!
ثم أضفتُ: البرغوث لا يترك حيّا إلاّ ويمص دمه، انه يشبه دراكولا!!
حينها شخصتْ الأبصار نحوي وكأنها في يوم الحشر، وانخطفتْ الوجوه وبلغتْ القلوب الحناجر، ثم استدركتُ قائلا: هذه المعلومة قرأتها في كتاب الدكتور داوود سلوم عن كنى الحيوانات والحشرات الصادر عام 1969 عن وزارة الثقافة والاعلام في بغداد.
لقد أحالوا القصد تلقائيا الى الطاغية صدام وفسروا قولي على ان صدام يمتص الدماء مثل البرغوث وهو يشبه دراكولا، فالمسكوت عنه اتّضح والمضمر تجلّى، فأين الفرار؟
كنا نعرف كل شيء والاحالة تمت بلا وسائط العقل وبلا مقدمات منطقية، وما نعيشه يوميا شاهد على ذلك، ولكن ينبغي أن لا نقوله!
صرخ أحدهم قائلا: معقولة أكو هيج كتاب يحتوي على هذه المعلومة موجود لحد الآن في المكتبات العامة أو الخاصة؟!
قوله هذا جعلني أشك في نفسي وفي المعلومة التي قلتها لهم وأخذتُ أتساءل: هل ان هذه المعلومة صحيحة أم اخترعتها مخيلتي، وماذا لو لم تكن موجودة في الكتاب أصلا؟
بقيتْ الوجوه على حالها من الوجوم والاصفرار.
ولكنني رأيتُ بعضهم يتمتم مع نفسه، حينها أدركتُ انني تورطتُ وقلتُ ما لا ينبغي أن يُقال وتوغلت في المناطق المحرمة وأتيتُ شيئا نُكرا!
تلبّد الجو بظلام قادم من جهات بعيدة، ظلام لا أعلم كيف حلّ بهذه العجالة، ربما كان ظلام أنفسنا الذي غطّى على كل ما حوله!
قال أحدهم متذمرا: المصيبة انني سمعت ما قلته!
وأدركتُ فحوى قوله: ان السامع الذي يسمع اساءة الى الذات الصدامية المقدسة ولم يبلّغ عنها هو شريك في الجريمة؟!
كان يريد أن ينأى بنفسه عن تهمة السماع فهي وحدها توصل الى حبل المشنقة، فكيف بالقائل؟
وكان قصده الذي لم يصرّح به: ان عليّ أن أبلّغ الجهات العليا لكي أكون بمنأى من أية عقوبة. ولأنني لا أعرف نوايا الآخرين تسرّب الخوف اليّ وقلت في نفسي: لقد وقعت في الفخ الذي نصبته لنفسي، رغم انني حين قلت ما قلت، لم يخطر ببالي إلاّ قول المعلومة فقط بدون احالات!
تحولتْ جلستنا الى مأتم وكل واحد فينا يواسي نفسه، القائل والسامع، وكل منا عقد محكمة في ذاته، فالجريمة واضحة لا لبس فيها والشهود موجودون!!
كان أحدهم يهز رأسه ويتلفت الى جميع الجهات مثل رادار ثم قال لي غاضبا: هسه هذا وكت هيج حجي!!
لا أدري كيف انفرطتْ مني تلك المعلومة، ولا أدري أين كان عقلي حينها، وكيف تهتكت تلك الحُجب التي أضعها حوله والمصدات التي أحتمي بها؟
الآخرون يريدون العيش مهما كان نوعه وبلا منغصات، فلماذا أنغّص عليهم؟
2
أسئلة لا حصر لها أخذتْ تدور في رأسي الذي تخلّى عني، وربما قلت في داخلي: هل ان نهاياتنا ترسم طريقها بمعزل عنا، وهل أبصرتُ حينها رأسي يتدحرج بعيدا عني؟
لم أقل الحقيقة، وانما الحقيقة هي التي قالت نفسها وسرّبتها بطريقتها هي، ومن خلال استغفالي، فكثيرا ما نقول الحقيقة ظنا منا باننا نخفيها!
هذا مشهد عرضي لحياة كنا نحياها وأيام محسوبة علينا في سجل الوجود.. وأكلت من عمرنا!
أعرف ان الدولة لا ترحم ولا أدري أية بلاهة ساقتني لقول ما قلته؟
كنا مثل الغنم، كل واحد منا يفكر بنفسه ومصيره، أما مصائر الآخرين فهي لا تعنيه..
لم يرد أصدقائي أن أنبش بواطنهم وهي تقول: لماذا تصرّح بالحقيقة، لماذا تزيل الستائر الموضوعة على وجوهنا، لماذا تحاول أن تتجول في اصطبل عقولنا، لماذا تعرّي أكاذيبنا التي نكتبها، لماذا تريد أن تضعنا في مواجهة مع أنفسنا التي روضناها بالذل.. لماذا.. لماذا؟
انتهى عملنا في الجريدة وذهب كل منا الى بيته، لكنني كنت أضرب أخماسا بأسداس وأرجّح جميع الاحتمالات وانتهيتُ الى نتيجة:
لابد لأحدهم أن يبلّغ المكتب الأمني في الجريدة عمّا دار بيننا وعليّ أن لا ألومه في ذلك، وليس أمامي إلاّ الهرب، ولكن الى أين وكل الجهات محاصرة؟
بعد أيام حصلت حرب الكويت.. فأنشغل أصدقائي بالحرب وبمصائرهم ومصائر عوائلهم.
انطوتْ القصة ويبدو ان الأصدقاء نسوها أو تناسوها.. وبدأت قصص جديدة.. لكن أصدقائي بعد انتهاء الحرب أخذوا يكثرون من كتابة البراغيث في مقالاتهم ولا أعلم أية براغيث يقصدون!!