1
قلت لصديقي:
مادمتَ مهووسا بالتقاط الصور وعرضها على واجهة التواصل الاجتماعي، اصبغ شعرك الأبيض، فليس من اللائق أن يكتب لك أحدهم:
منوّر ومتألق وشباب دائم، وأنت تحمل لافتة أشبه بشاهدة قبرك!
أن تصبغ شعر رأسك يعني أن تكذب، أن تحجب الحقيقة، أن تتوارى خلف أوهامك، أن تعرض بضاعة غير بضاعتك، أن تغش الناظر، ولكنه من الكذب الذي سوّغته الشريعة ولم تنكره.
وصديقي الذي كل يوم له صورة، لا أعرف ما الذي يريد أن يقوله لنا، وهل يظن نفسه صغيرا بحاجة الى كلمات اطراء واعجاب ليخدع نفسه.
وهل نحن بحاجة الى خديعة لنستأنف الحياة الهاربة منا؟ النساء العجائز، اللواتي أكل الشيب رؤوسهن، لا يردنَ أن يكبرن، فان تجرأتَ وقلت لاحداهن:
أنتِ كبيرة بالسن، فستهاجمك على الفور بالسباب والشتائم ومن العيار الثقيل!!
بالتأكيد هي حيرة وورطة وشبهة ورطانة.
أذكر مرة انني وقفت أمام القاضي في احدى المحاكم المدنية بخصوص قضية إرث عائلي، وكان القاضي يؤجل القضية مرة بعد أخرى ولا أعرف السبب.
قلت له بعد أن طفح الكيل:
لماذا تؤجل القضية وجميع المستمسكات الرسمية المطلوبة موجودة؟
قال: نريد احقاق الحق ونتبين الحقيقة؟
حينها انتبهتُ الى ان شعر رأسه مصبوغ بصبغ أسود كثير اللمعان.
فقلت للقاضي: هل تسمح لي بسؤال ربما له علاقة بالحقيقة التي تبحث عنها؟
قال: تفضل؟
قلت: هل ان سواد شعر رأسك حقيقي، هل تريد أن تقول لنا ان شعر رأسك أسودَ وليس أبيضَ.. أين الحقيقة التي تبحث عنها؟
حينها حدّق الي مليّا والشرر يتطاير من عينيه وطردني شر طردة..
لقد أُسقط بين يديه، فالحقيقة التي يدّعيها يزوّرها على مرأى من الناس.
وذلك قادني الى سؤال لا أعتقد ان بمقدور أحد الاجابة عليه:
هل يجدر بالقاضي أن يصبغ شعره ورأسماله الحق والحقيقة، خصوصا ان القضاة الذين يطلون علينا عبر الشاشات الفضائية يستخدمون صبغة تثير الريبة، بل هي أكثر سوادا من الصبغة الالهية الأصلية!!
2
أنا من الذين يصبغون شعرهم، وحين يواجهني أحدهم بالسؤال: هل أنت صابغ؟
أتلعثم ولا أعرف ماذا أقول له وفي أكثر الأحيان أتغافل عن الجواب، بل أفتعل حديثا آخر، فربما ينسى السائل سؤاله!
لقد ذهبتْ أعمارنا سدى دون أن نشعر بها، فكأننا قُذفنا من رحم أمهاتنا الى متاهة الشيب، وما بينهما حروب وهتافات وذل يومي..
حُرمنا نكهة الحياة مبكرا واستبدّ بنا الشيب قبل الأوان.
هل كنتُ على حق حين طلبتُ من صديقي أن يصبغ شعر رأسه؟
ربما مبرري في ذلك انه لا يترك زاوية فارغة الاّ ولصق صورته عليها،.
هل الأجدى له أن يكف عن لصق هذه الصور؟
هل أراد صديقي أن يعطينا درسا، بأن نكون كما نحن بدون رتوش وان لا نموّه آثار الزمن علينا؟
لا أعتقد ذلك لأن كثيرا من صوره صبيانية لا تناسب وقار الشيب!
أتذكر مرة قرأتُ للمنفلوطي قوله:
ان الشعرة البيضاء التي تستوطن الرأس هي مثل الرجل الأبيض الذي يأتي الى القارة السوداء زائرا ثم يصبح مستعمرا!!
ربما صبغ الشعر يمنحنا طمأنينة مؤقتة، ويطرد عنا شبح الموت الذي يتراءى لنا في المرآة كلما حدقنا فيها.
العرب وحدهم يستوقفهم الشييب ويحسبون له ألف حساب..
في دول جنوب شرق آسيا التي أزورها باستمرار، لم أرَ أحدا ينتبه للشيب وخصوصا النساء، فان تقدمتَ للزواج من احداهن وأنت تحمل هذه الكتلة البيضاء على رأسك فليس ثمة مشكلة...
في أندنوسيا كنت أمشي مع صديقي والمرأة الاندنوسية التي تزوجها، كان صديقي قد تجاوز الخمسين ورأسه كتلة من البياض وكانت الاندنوسية في بداية العشرينيات من عمرها وهي طافحة بالانوثة وتحرص على أن تتأبط ذراع زوجها، رجل الثلج!!