العديد من الكتاب العراقيين حاولوا محاولة في كتابة نصوص مختلفة عن الدراما، وهم معتمدين في الكتابة التقليد لنصوص نالت اعجابهم ان كانت عن طريق القراءة او المشاهدة متاثرين بها ومحاولين من خلال هذا التقليد بالكتابة، انما الاصالة في الكتابة لمثل هذه النصوص مبعثها يأتي من التجربة الذاتية او المكتسبة للكاتب نفسه، وتاثيرات الواقع الذي يعيشه متاثرا بما يدور حوله، ومدى تاثيرات هذا الواقع عليه مثل الظروف السياسية بالدرجة الاولى، والثقافية والاجتماعية والدينية بالدرجة الثانية، وجميع هذه التاثيرات والتي تؤثر تاثيرا مباشرا على كتاب النصوص الدرامية ومنهم كتاب نصوص مسرحيات المونودراما. يتمخض عن هذه التاثرات اشكالا ومضامينا في كيفية الكتابة، ولربما يجهلون انهم يكتبون نصوصا نمطية بالشكل والمضمون.
فهناك من الكتاب لنصوص المونودراما يعطون اهمية للسرد الانشائي ومن دون مراعات الفعل مابين سطور كتاباته، او قد يبدأ بسرد طويل، ومن خلال هذا السرد لا يراعي التصوير الفعلي غايته تنمية الصراع والذي يبداه من اول صورة، او مشهد في العرض المسرحي.
والعديد من الكتاب يعتقدون بان نصوص المونودراما هي خالية من الفعل ورد الفعل ضمن سياق احداث تسلسل مشاهدها التصويرية والتي تذكر بشكل وصفي وعن طريق السرد الحكواتي للممثل الواحد ،حيث يبدا وعن طريق هذا السرد بالرجوع الى ذكر الماضي المؤلم، او الواقع الذي يعيشه، ومن دون اخذ الاعتبار للفعل الذي يحرك المشاهد السردية معتقدين في هذا انهم يكتفون بالالقاء السردي لهذه المفردات الكلامية فقط، فهذه النظرة هي خاطئة في فن كتابة مثل هذه النصوص ذات الشخصية الواحدة، لعدم وجود الفعل الاساسي والذي يبني عليه الكاتب ثيمته الاساسية، ليستطيع من خلال هذا الفعل تنمية البناء والصراع الموجود في هذا السرد، بعيدا عن معاناة الكاتب نفسه، ولهذا سينتج عن مثل هذه النصوص السردية التمثيل اللاتمثيل بقراءة سطحية جافة مشابهة للطبل الاجوف والذي يقرع عليه ولا يسمع منه سوى صوته الاجوف.
وكذلك يوجد العديد من كتاب نصوص المونودراما يشرعون بكتابة نصوصهم مبتدئين كتاباتهم سردا ليس فيه تسلسلا للاحداث، ولا بناءا متناميا للصراع، لانه في الحقيقة هو خالي من الصراع الذي يجب ان تمتلكه الشخصية، وهنا يفقد الممثل مهارة الابداع في تجسيد مثل هذا النوع من النصوص المونودرامية. علما ان هذا النوع من الاعمال المسرحية اعتماد طرحها ونجاح تجسيد مضمونها يقع على عاتق نموذج الممثل المبدع، والذي يعرف كيف يطوع الشخصية على ضوء مهاراته الابداعية، وجودة تمثيله لانه المسئول عن نجاح مثل هذه العروض المسرحية. هناك نصوص من نصوص المونودراما خالية من الثيمة او الفكرة الاساسية التي يبني عليها المؤلف احداث عمله، حينما يدع العنان لقلمه لتتسابق الحروف والكلمات في الكتابة لحياكة سرد، ينط من خلاله بين افكار غير متشابهة في المضمون، وليس فيها اشباع لصور الاحداث والتي يستقيها الكاتب من الواقع الملموس والتي ادت الى ظهور مثل هذا المسرح الى حيز الوجود، حيث تاتي المشاهد بشكل استعراضي وسريع للمشاهد المعروضة لا تسمح لوجود تسلسل لعرض الافكار بشكل متناسق تسمح لمعالجة المواضيع المطروحة من قبل الكاتب، علما بان فن كتابة النص المونودراما، هو ايضا خاضعا لمقومات وعناصر الكتابة من مقدمة (العرض الاستهلالي) ومن ثم استعراض الفكرة وعن طريق الممثل الانفرادي، وبعدها يبدأ بتازيم الطرح ليصل به الى العقدة ومن ثم الذروة ومنها الى النهاية (الحل).
نعم هذه المقومات والعناصر لا يخلو منها النص المونودرامي الناجح، والا انه سنجد نوعا متشابها لبعض النصوص المسرحية والتي قد تقرأ ولا تمثل، صحيح انها تملك الشخصية والحوار انما هي خالية من الاحداث والصراع والبناء لهذه الاحداث والتي قد تساعد على متابعة المتلقي لاحداث العرض المسرحي، هذه المقدمة من المفارقات والملاحظ ان لمعظم المتوهمين من انهم كتاب لمثل هذه النصوص، والذين لا يراعون في كتاباتهم المقومات والعناصر المطلوبة في فن كتابة المونودراما بقدر مانلاحظ ان اعمالهم مليئة بالنواح والبكاء ليجسدها الممثل الواحد في نصوصهم، معتقدين بان مثل هذه الحالات تساعد ممثلهم على تجسيد حالة الابداع في الحرفة التمثيلية، وفي الوقت نفسه انقاذ نصوصهم من السقوط في هاوية الفشل الذريع.
مسرحية اوهام
هذه المسرحية من تاليف الكاتب والمخرج العراقي المبدع عكاب حمدي، هو احد ابناء الفلوجة الحبيبة والمهجر قسريا عن دياره ومع عائلته الى بغداد، الا ان هذه الحالة زادته نالقا وابداعا في عطائه تاليف واخراجا، وانا هنا استعرض نصا لمسرح المونودراما من تاليفه وبعنوان:
اوهام، مسرحية اوهام، هذا النص المسرحي المونودرامي الذي ابدع في كتابته الكاتب والمخرج العراقي عكاب حمدي، فيه من الحداثة للتركيبة الصورية للسرد الذي ابدع في تحويره من السرد القصصي الى فعل لتصوير الحدث الذي استطاع ان يخلقه من خلال مناجاة الزوجة لزوجها ومع ذاتها لتحرير مافي داخلها من شحنة المشاعر والاحاسيس نتيجة رد فعل للافعال الخارجية والغير الاعتيادية مثل الطرق على الباب، ومناجاة زوجها الغائب عنها وعن طريق الرمز الذي احتضن اجسادهم في عز شبابهم الا وهو السرير والذي اتخذ منه حمدي ملجئا رمزيا لتحاكيه الزوجة وتحرر ماعندها من المشاعر الداخلية واحاسيس الاشتياق، هذا السرير الذي احتضنته الغرفة التي حافظت على اسرار مناجاتهم، اضافة الى هذا فكرة ذكية كانت من الحمدي من استخدام المراة رمزا اخر والمشاركة لها احزانها ومعاناة الوحدة التي تشكو منها ، مطلة من خلالها على مافعله الدهر من اثار الشيخوخة والعجز والتي ظهرت ملامحه على وجهها وشعرها الاسود والتي شابه الكثير من بياض الشيب.
هذه الرموز الذكية التي استطاع الكاتب والمخرج العراقي ان ينقذ شخصيته الوحيدة والمتمثلة بالزوجة من انفرادها التمثيلي لتشاركهم بمعاناتها والتعبير عما عانته ومازالت تعانيه في غياب زوجها.
عكاب حمدي استطاع ان يكسر الطوق ويخرج للعالم المسرحي بنص مسرحي مونودرامي يشوبه الابداع والتحديث يهيىء للمخرج تجسيد المضمون وبشكل يرتقي به الى حالة الرقي والتطوير فيما اذا احسن تجسيد مضمون هذا النص.
يذكر الحمدي في نصه بان الاحداث تدور رحاها في غرفة الزوجية، هذه الغرفة استخدمها رمزا للدفىء والجو الرومانسي لاعادة ذكريات ايامها الزوجية مع شريك حياتها الغائب والذي ذهب لتلبية نداء الوطن، ومشاركته في الحرب الطاحنة للدفاع عنه، الا ان معاناتها وهموم الوحدة ومناجاتها لتلك الذكريات، يقطعها طرقات الباب والتي تأبى فتحه في بادىء الامر لعلمها المسبق بان ماوراء هذا الباب لا يوجد سوى وهما وسراب، وليس هناك طارق سوى ماتصوره لها مخيلتها من تكهنات عن عدة شخوص والتي تتخيلهم ضمن احتمالاتها الفكرية، هي ترغب في فتح الباب، الا انها في هذا الفعل تعلم جيدا انها سوف لا تجد من يملاء حياتها، ولهذا تكره الاقدام على فتح الباب بعد ان اعياها ولعدة مرات فتحه حيث انها لاتجد سوى السراب، وهذا مايؤكده حوارها حينما تقول بعد ان تصرخ: (اني اكرهك، لن افتح لك وابدا ومهما تكن، عد الى حيث اتيت، لن افتح، لن افتح.
وبعد هذه الحالة من الفعل الذكي الذي يخلقه الحمدي في هذا المشهد تعود الزوجة لسرد ذكريات السنين الطويلة عن علاقتها بزوجها.
ومن هنا يبدأ صراعا جديدا للزوجة ومع نفسها لترثي حالها نتيجة رد فعل لطرق الباب من جديد، وهي محاولة ذكية من الكاتب غايته خلق حالة من عنصر التشويق والشد والمتابعة للمتلقي لسير احداث العمل، هذه المحاولة هي بالحقيقة كانت محاولة ذكية للعرض الاستهلالي للكشف عن هوية الزوجة وبقية الشخوص الغير المرئية في النص سوى ماتم ذكرهم عن طريق الزوجة وهم، الزوج، وابنهما، هذا الابن الذي يساعد ذكره في النص على دخول مشهد المدرسة والاباء، وعن طريق لسان والدته حينما يخبرها انا هناك حضورا لجميع الاباء الا اباه، ((تمنيت لو ان الحمدي توسع في شرح تفاصيل هذا المشهد واغناه بصورة اوسع تسترسل الام من خلال هذا المشهد تمنياتها بحضور الاب الى المدرسة لتدخل من هذا السرد في عالم اخر من الوهم-- مجرد اقتراح)).
الصورة الاخرى والثالثة والجميلة، وجمالها يتجسد في ذهاب الزوج والزوجة الى السوق، هي بالحقيقة صورة لاحلام الزوجة وهي تسترجع ذكرياتها في اختيار السرير لولدها حيث ان هذا المشهد سيخلق للزوجة لعبة مسرحية جديدة لحرفيتها كممثلة وستجسد من خلالها مهارة ابداعها الفني في خلق حالة من حالات التحول النفسي للمتلقي اذا احسنت التمثيل لتساعد المتلقي بهذا على الاسترخاء النفسي لتنتقل به من حالة التراجيديا الى الكوميديا الماساوية. يضيف الحمدي بعد هذه الصور والمشاهد المتتالية والتي تحكي عن حالة الزوجه صورة غاية في الجمال حينما تعاني الزوجة من عطشها الروحي للحياة الزوجية، وهي تقف امام المراة لتبدأ بتسريح شعرها وهي تغني وتتغنج بحوار جميل، الا انها تنصدم بالواقع الجديد الذي اوصلها الى حال لا يرضي انوثتها وجمال بشرتها حينما تلاحظ التجاعيد قد ظهرت على بشرة وجهها وغزا الشيب راسها، بحوار ساعد على استحضار الالم والمعانات، الا انها لاتبالي لهذا مادامت تعيش الاشتياق الى تلك الايام الجميلة التي جعلتها تغني وترقص وحسب رغبة زوجها، متخيلة ليلة الزفة وهي بثوب العرس الابيض والحالة هذه ممزوجة باهات العشق والحسرات والتي تثير في جسدها من الهياج الجنسي ان استطاعت الممثلة التي ستقوم بتمثيل هذا الدور ان تجسده على المسرح، وهنا يصفع الحمدي صفعة جديدة من الطرق على الباب، وبهذه الطرقة وكأن الكاتب للنص اراد ان يقطع حالة الاندماج ليعلن عن حدث جديد باحياء الامال للزوجة بمجيىء الزوج الا انها وكالعادة تنصدم بواقع الوهم الذي يساعد هذا الحال على تنمية البناء والصراع الداخلي للزوجة وامام المراة تبدا خيوط ومعالم الشخصية في البعد النفسي ياخذ مداه في التعبير عند الزوجة للانا الذي تحسه في داخلها بعد ان تقف امام المراة وتبدأ باسترجاع حقيقة مشاعرها وسرد حقيقة وجودها بين هذا العالم وافراد مجتمعه.
ويصل بنا اخيرا الكاتب والمخرج العراقي عكاب حمدي في رحلته المونودرامية الى المشهد الاخير في محاورة الزوجة مع السرير ، انه مشهد يزيد من رونق العمل المسرحي ويزيد من جمالية التعبير عند الممثلة فيما اذا احسنت الاجادة في تادية الدور لشخصية الزوجة، حينما تبدأ الزوجة بمحاورة السرير والذي يرمز الى الزوج الغائب لتصف حالتها والتي تتدرج بهذا الوصف الى خلق بناء جديد يساعد على ايجاد صراع الذات مع السرير والذي يرمز الى الزوج الغائب الا انها تجابه برودة التعاطف من قبل السرير لها والذي يدفعها للصراخ معبرة عن العاطفة التي تحرقها من غياب زوجها حيث تقول بحوار شيق ولطيف:
(هيا، هيا ايها السرير، اعد الى جسدي الدفىء فانا محتاجة لدفئك، محتاجة لاغوص فيك، محتاجة ان تطفىء نيران جسدي التي بدأت تمزق اعضائي، محتاجة الى ان تعيد لي انوثتي التي اطفئها الانتظار، هيا اعد لي رعشات جسدي التي توقفت منذ زمن بعيد، هيا، هيا، هيا).
في هذا المشهد المتنامي البناء استطاع الكاتب ان يخلق فعلا متناميا لهذه الشخصية، وصراعا يصل الى ذروته ليبدأ الاداء بعد ذلك بالتهاوي في مشهد يسوده السكينة والهدوء.
انه في الحقيقة فعل داخلي لا تظهر ابعاده الا من خلال البعد النفسي بمشهد رائع وجميل فيه من تراجيدية التمثيل، وحوار يساعد على تجسيد مهارة الممثلة، محاورة فيها الثيمة الاساسية، وفكرة تؤدي ببنائها الدرامي الى الذروة لنهاية نص جيد وممتاز .
ملاحظة: اقتراحي على نهاية النص، من الافضل حذف دخول الابن في نهاية النص ودخوله بالزيي العسكري ليجد والدته متوفاة، والاكتفاء بنهاية وفاة الزوجة مع مشهد الجنازة الذي يستعرضه المخرج على السايك الخلفي في النهاية، لانه بدخول الابن على والدته سيقتل ذروة المشهد الاخير في مشهد صغير لا يساعده على اعادة بناء ذروة النهاية للنص.