لو تابعنا ودققنا في اهداف كل من الدين والمسرح، وتحديد علاقة كل منهما بالانسان، لوجدنا ان هناك علاقة روحية غايتها اهداء الانسان الى الطريق السليم والقويم في الحياة، وايجاد علاقة روحية مابين الانسان والخالق، وعلاقة الانسان باخيه الانسان، هذه العلاقة الروحية مبعثها الايمان بالرسالات السماوية التي تنشر المحبة والتاخي ورفض الكراهية والبغضاء والتفاني من اجل البناء والتغيير باتجاه الافضل لخير الانسان ورفاهيته وسعادته الدنيوية واحياء الامال في الحياة الاخرى.
ان للدين اهدافا تسمو بالانسان وتدعوه الى اتباع الطريق المستقيم لتقيه من مغريات العالم الدنيوي ومخاطره، وان يعيش ضمن القناعة المعتدلة بالحياة التي يحياها ومن خلال علاقة ايجابية مع المجتمع، حيث ينصهر فيه انصهارا روحيا من اجل ان يبقى متحصنا، والمحافظة عليه من السير في طريق الانحراف، مقتديا بالرسالات السماوية.
علاقة الانسان بالمسرح
اما علاقة الانسان بالمسرح فهي علاقة فكرية وثقافية تختلف مابين انسان واخر مستوحات من واقع الانسان وخبرته وتجربته في الحياة اضافة الى ان احتكاكه بالاساتذة والاطلاع على حياتهم الثقافية والتاثر بواقعهم الثقافي والسياسي والاجتماعي في معظم الحالات، وعكس واقع مختبري تجريبي فيه من التوعية والرغبة في التغيير ومدى رغبة الانسان بهذا التغيير.
ونحن نعلم، بان المسرح وعلاقته بالانسان هي علاقة قديمة تعود الى ماقبل الميلاد لكونه كان مسرحا طقسيا دينيا واداة للتنفيس وللتطهير ومن ثم تطور واصبح مراة يعكس الواقع لحياته و تشخيص مشاكله الاجتماعية وواقعه الثقافي والسياسي والديني.
علاقة الدين بالمسرح
فقد بادر الشعراء في المرحلة ماقبل الميلاد ( الاغريقية اليونانية) ومنهم يوربيدس واسخيلوس وهوميروس وسوفوكليس استخدام المسرح استخداما دينيا ومنبرا تجري من فوق منصته طقوس نابعة من ايمانهم وحيث كانت تعرض القصائد الشعرية من على منبر، او مايسمى بالمذبح، وهي عبارة عن قصائد تحكي عن اساطير الالهة بطقوس فيها شيئا من الفن والجمال والمصاحب مع الجوقة غايتها التعبد والتدين، وخلق علاقة روحية مابين الانسان والدين والمسرح، هذه العلاقة كانت تحت بركة كهنة المعابد متوسطين عند الالهة وعن طريق ملوكهم واباطرتهم لينالوا رضى الالهة وابعاد اللعنة عن شعوبهم وبطقوس تجري ضمن مواسم تتزامن مع فصول السنة، ولكل موسم له عيد خاص لالهة من الالهة الاغريقية اليونانية، هذه الطقوس كان يجري احتفالها على منصة وامام الجماهير المحتشدة على سفوح الجبال المتدرجة ضمن مدارج خاصة لجلوس الجماهير لتقديس الهتهم وتقديم النذور والذبائح المختلفة وكل حسب امكانياته المادية.
اذن نفهم من هذا ان هناك علاقة ومنذ نشوء المسرح بطقوسه الدينية علاقة بين الدين والمسرح، والعامل المشترك الذي نشأ بينهما يتمثل في القصيدة (النص المسرحي) والشاعر (الممثل) والمنصة (المسرح) .
تطور علاقة الدين بالمسرح
وتطور هذا الاسلوب وبموجب تطور العقائد الدينية واساليب المسرح ، انما بقيت تاثيرات العقائد الوثنية متلازمة مع المسرح ومع اطروحاته الفكرية ، ففي بداية القرن الرابع الميلادي حينما ظهرت الديانة المسيحية واخذت تدعو الى الخلاص الروحي للانسان من خلال ثقافة روحية مستمدة افكارها وشرائعها من الكتاب المقدس، والتي كانت تتعارض مع ماكان يطرحه المسرح الوثني لالهة الاغريق، ولهذا حاولت الكنيسة في وقتها التحفظ من المسرح والحد من خلق علاقة بين الكنيسة والمسرح، حرصا على عدم تلوث افكار اتباعها والارتداد عن الايمان الكنسي والتي كانت الكنيسة تدعو اليه وتبشر له، ولهذا دعت الكنيسة رعاياها الى مقاطعة المسرح واقصائه عن المجتمع حرصا منها على عدم تاثر الجمهور من رعاياها بالثقافة الوثنية والتي كانت سائدة انذاك في العروض المسرحية، سيما وان هذه العروض كنت تتسم بلغة شعرية موسيقية، وتصوير بعض المشاهدباجواء رومانسية خلابة تحكي عن علاقة الانسان بالطبيعة وبالحياة الدنيوية، وكذالك تميزت كتابات الكتاب المسرحيين بتعابير لغوية جميلة وسلسة نالت استحسان الجمهور والاعجاب بها، ولهذه الاسباب حاولت الكنيسة الابتعاد عن مثل هذه العروض وابعاد رعاياها عن مشاهدتها، اضافة الى تحريم المسرح على كافة المسيحيين في وقتها.
نظرة الكنيسة للمسرح
لقد تغيرت نظرة الكنيسة للمسرح بعد هذه المرحلة بالذات، ففي القرن العاشر الميلادي، وبعد تطور الاساليب التي كانت تخدم نشر رسالة الكنيسة واهدافها، ساد في وقتها اسلوبا خطابيا وتراجيديا اشبه مايكون بالمسرح الاغريقي اليوناني والمعتمد على الشاعر، وهذا التشابه باسلوب الطرح في الكنيسة الغربية نجح بعض الشيىء ومن خلال رهبان واباء كانوا يملكون بلاغة في التعبير واسلوب مؤثر جدا على المتلقي في خطاباتهم (المواعض الدينية والكرازة الروحية الدينية) والتي كانت تعمل على الاندماج والتقمص من قبل الراهب او راعي الكنيسة، والتاثير بما كان يوعظ به، ونقل هذا التاثير مباشرة على اتباع الكنيسة ورعاياها، وجائت مرحلة لاحقة حاول هؤلاء الرهبان والراهبات معا تطوير هذا الاسلوب الخطابي الى اسلوب تمثيلي والعمل على تاليف نصوص دينية مستمدة مواضيعها من الكتاب المقدس وعرضها على المؤمنين من رعايا الكنيسة، ونتيجة لهذه التجربة الكنسية الجيدة والمتطورة باسلوب التعليم والتبشير، شجع رؤساء الكنيسة الى اتباع هذا الاسلوب والاعتماد بالمواضيع الدينية على الكتاب المقدس كنصوص تؤلف وتعد من خلال مضمونه، وهذا الاسلوب اخذ شكلا حواريا يتم مع الكاهن والشماس (الرجل الثاني في تقديم هذه الذبيحة الالهية) اضافة الى مشاركة الجوقة (الكورال) في مشاركة هذه الصلاة واقامة الذبيحة الالهية اضافة الى مشاركة عامة الشعب من المؤمنين الحاضرين للاستماع الى هذا القداس الالهي، هذا النشاط الحواري بين الكاهن والشماس والجوقة اخذ سمة وشكلا حواري مابينهما مشابها للمحاورة التمثيلية، ومن ثم تطور هذا الاسلوب متخذا له اسلوبا اوسع مما كان عليه في السابق حيث اضيفت تراتيل الجوقة والمصاحبة مع الموسيقى.
تطور علاقة الانسان بالدين و بالمسرح
ومع تلاحق الفترات الزمنية وما لحقها من تغيير في الاوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية، تحولت علاقة المسرح بالانسان من علاقة دينية الى علاقة ثقافية وسياسية، الا ان هذه العلاقة جائت وعلى مراحل زمنية ضمن التغييرات التي طرأت على المجتمعات من خلال نهضة فكرية وثقافية، حيث كانت الثورة الصناعية ونهضتها سببا من اسباب تطوير الحياة الاقتصادية والثقافية، وسببا من اسباب تغيير اتجاهات المسرح، وتغييرا لمضامينه الفكرية من دينية ووعظية الى مضامين سياسية وثقافية وانتقاد الاوضاع الاجتماعية، وبهذا الاتجاه الجديد، اخذ المسرح شكلا جماليا تعبيريا، داعيا الى الثورة على العادات والتقاليد البالية و اضافة الى كل هذا اصبحت علاقة المسرح بالانسان هي علاقة مصيرية تعرض المعنيون الى المطاردة والزج بهم داخل السجون، وتقييد حريتهم وكتم اصواتهم. وعليه فان مجمل علاقة الانسان بالمسرح هي علاقة مادية ومثالية وفلسفية وجمالية مشتقة من الحياة الدنيوية وواقعها، ومحاكات الطبيعة وتجسيد جمالها، كل هذا تجسدت في مضامين نصوص كتبها ادباء معنيون في بناء العلاقة الفردية مع المجتمع، والتي تبدأ من خلال الاسرة ومحيطها وبيئتها، ولهذا فان المسرح يتجه للانسان ودعوته للايمان بالقضايا المصيرية الايجابية في حياة الفرد، ومن خلال نصوص تكتب غرضها الاصلاح وتجديد علاقة الانسان مع الواقع الذي يعيشه والمشاركة في عملية التغيير والتطوير والحداثة لواقع كل مجتمع يحتاج لمثل هذه المعالجة.
اذن من هنا تعرفنا على اهداف الدين السليم والبعيد عن المحاصصة والمصالح النفعية، وكذلك تعرفنا على المسرح واهدافه النبيلة في خدمة الانسان في قضاياه المصيرية وبعيدا عن المصالح النفعية والتحيز لها، وكذلك نبذ التحيز للمصالح الفردية والاطماع لمغريات هذا العالم الدنيوي، والتأكيد على العلاقة الانسانية بالمجتمع وعلى الاهداف التي تدعو للخير ولرفاهية المجتمع.
الكنيسة ودورها في المسرح
كان للكنيسة دورا رئيسيا في تسخير العروض المسرحية لمصالحها بعد ان تحولت اهدافها الكنسية من اغراض دينية الى اهداف سياسية وسلطوية، مارست من خلالها قيادة نفوذها وبما يتفق مع مصالحها في ديمومة مصالح القائمين والمشرفين على رعاية مصالحها باتجاه السيطرة الدينية من حالة التدين الى الحالة السلطوية، ومحاربة بقية الكنائس والتي انفصلت عن الكنيسة الام (الكاثوليكية) منها كانت الكنيسة الانكليزية، والكنيسة التي قاد حركتها مارتن لوثر الانجيلية في المانيا، ومن هنا اصبحت علاقة الانسان علاقة جبرية ومفروضة عليه وواجب من الواجبات المقدسة لاتباع كل طائفة لكنيسته (الكنيسة اللوثرية، والكنيسة الانكليزية، والكنيسة الكاثوليكية في ايطاليا وفرنسا) بعد ان اتبعت الكنيسة نظاما قاسيا بتشكيلها محاكم كنسية خاصة وتطبيقها العقوبات الكنسية بحق من لا يلتزم بما تمليه عليه من القوانين والانظمة والقرارات، والموافقة والرفض الكيفي للكثير من القرارات الجماعية والتي كان ينادي بها بعض المعتدلين والغير المنحازين لاية طائفة من الطوائف المسيحية والتي كانت سائدة انذاك، فظهرت محاكم كنسية تدين المفكرين والعلماء وتنعتهم بالهرطقة والكفر بحق الله وبكنيسته مما حدد هذا علاقة الانسان بالمسرح وبما يطرح من على خشبته من دعايات في الترهيب والتحذير والتخويف عن طريق مسرحيات دينية طرحت افكارا اجتهادية وخارجة عن مضمون الكتاب المقدس من خلالها يستعرضون قصص الشيطان وعالمه الجهنمي، طرحت ايضا من خلال المسرح الديني الكنسي بعض المفاهيم التي لا يعقلها العقل البشري، ولا هي ايضا موجودة في الكتاب المقدس (العهد الجديد) بقدر ماهي مفاهيم تعتمد التخويف والترهيب والتحذير للرعية فيما اذا هم اساؤو علاقتهم مع الكنيسة او تمردوا على تعليمات الكهنة من رؤساء الطوائف وكنائسهم، وهذه التعليمات غالبا ماكانت تحمل البغض والكراهية والمحاربة لبقية الطوائف المسيحية والغير الموالية للكنيسة الكاثوليكية، جميع هذه الظروف هي التي حددت علاقة الانسان بالمسرح وبما يطرح من على خشبته وحددت علاقة الانسان به، هذه العلاقة اصبحت متدنية والنفور منها اكثر من فوائدها للكنيسة، ولاسيما بعد ظهور تيارات فكرية مناهضة للكنيسة الكاثوليكية ولاساليبها الترهيبية والاستغلالية (صكوك الغفران) هذه الصكوك التي كانت تبيعها الكنيسة على رعاياها مقابل نيل الغفران والتكفير عن ذنوبهم، فظهور هذه التيارات الفكرية منها الاصلاح الديني، والافكار العلمانية التي كان لها الدور الكبير في ظهور بعض المفكرين والذين كانوا يحملون افكارا يسارية وفلسفية وقادة من العمال المناهظين للركود السياسي والداعين الى اطلاق حرية التفكير والدعوة الى ثورة ضد ماهو بالي لا يخدم الانسان، هذه المجموعة فصلت القضية الدينية عن السلطة والمساهمة في تفعيل ارادة الانسان وتجسيد رغبته في التغيير من اجل حياة حرة كريمة والتي تهدف لرفاهية الانسان، وعن طريق الصحف انتشرت المقالات التحريضية والتعبوية، اضافة الى دعم خشبة المسرح والعروض المسرحية ذات المضامين التحريضية والتعبوية والمليئة سخرية وانتقادات للاوضاع التي كانت سائدة انذاك وللمرحلة السابقة من حياة المجتمع، فمن هنا ولهذه الاسباب تغيرت علاقة الانسان بالمسرح، واصبحت هذه العلاقة وجدانية ملحمية للعديد من القضايا المطروحة من خلال نصوص مسرحية تناولت قضية الانسان، ونبذ وانتقادات المرحلة السابقة لهذه المرحلة من خلال كتاب حاولوا بناء الانسان بناءا فكريا وعقائديا وتغيير مفاهيمه وغسل افكاره بما كان قد تاثر بها وتحرير ارادته ورغبته للمساهمة في بناء المجتمع وتطويره وعن طريق خشبة المسرح والنصوص التي كانت مليئة بالنقد والسخرية من الاوضاع القديمة والتي كانت تساهم في نشر الافكار التحررية والخطابات التعبوية، فمن خلال هذا كله ابتعدت الكنيسة عن العروض المسرحية، وبادرت بتحريم رعاياها من ارتياد المسرح ومشاهدة عروضه.