مسيرة ستانسلافسكي التطبيقية
في حياته الفنية
لقد خاض ستانسلافسكي عدة تجارب في الاعمال التهريجية وجسد العديد من الشخصيات الكوميدية اضافة الى تجسيد الشخصيات التراجيدية والجدية من على مسارح موسكو ،فمن خلال هذه المسيرة تجمعت لديه خبرة وتجارب ذاتية اضافة الى متابعة ادق التفاصيل في التمثيل عند الممثلين المحترفين، وملاحظة ومعايشة اعمال بعض المخرجين والتي تعامل معهم في اعمالهم المسرحية، فحصيلة جميع ما شاهده وتعايش معه مقارنا اياها مع ماعنده، لم يروق له ذالك ولم يؤمن باعمال غيره، ولهذا شرع بتاسيس مختبره وبدأ بتطبيق ما يؤمن به وما توصل اليه من وجهة اراءه السديدة وعمل على تطبيقها على طلبته في مختبره التجريبي، وبعدها شرع صيته كممثل ومخرج في الوقت نفسه للمدرسة الواقعية على الانتشار ولا سيما في روسيا، حيث بعد هذا الانتشار في داخل مسارح روسيا توسع هذا الانتشار واخذ مداه الى المسارح العالمية والعمل بموجبها، وقد اكد ستانسلافسكي على الخصوصية والتي منها:
- اولا، من الضروري جدا ان يعمل الممثل على دراسة شخصيته، وان يبنيها البناء السليم من حيث التفاعل مع الاحاسيس والمشاعر الصادقة للممثل مع الشخصية المسرحية، ودراسة واقعها الاجتماعي والثقافي والنفسي، وان يرسم معالمها مستلهما من الواقع الذي يعيشه الممثل صورا واقعية مقاربة لهذه الشخصيات والتي سيجسدها من على خشبة المسرح، بواقعية سلوكيتها، ومسرحتها بابداعات مهارته وابتكاراته الفنية والتي تتلائم مع هوية الشخصية مستعينا اضافة الى الواقع الذي يعيشه بخلفيته الثقافية في الخلق والتسخير لهذه الشخصية بواقعيتها من على خشبة المسرح.
- ثانيا، ان يعيش الممثل ويجسد حالة الشخصية بأحاسيسها ودواخلها المتأثرة بردود افعال خارجية والتي تنتج عنها حركات تلقائية بعيدة عن التصنع والتشنج والحركات التخشيبية، بقدر مايحاول خلق شخصية نموذجية بسيطة الاداء وصادقة في تجسيد الاحاسيس والمشاعر الحسية للشخصية الواقعية اضافة الى الاندماج مع الشخصية والتقمص لها، اي التقمص مع حالتها على انها شخصية واقعية تعيش احداثها بصدق المشاعر.
- ثالثا، الاهتمام بالسنوغرافيا المسرحية وتقريبها الى الواقعية بشكل فيه من الابداع والفن، ولا سيما في المسرحيات الواقعية الرمزية ياتي تصميم الديكور اشبه مايكون قريبا الى الواقع و فيه شيئا من رمزية التفسير ليساعد على اعطاء واستحضار الجو العام لاجواء تفسير الرمز مساندا لحركات وايماءات الممثل وتجسيدا للفكرة المطروحة من خلال النص المسرحي المعروض، وبالاتفاق مع المصمم، اضافة الى تصميم الاضاءة التي ايضا تساعد على اسناد وتفسير الاحداث برموز الوانها وتساعد ايضا على اضفاء جمالية تصميم العرض المسرحي.
ستانسلافسكي والمتلقي
عمل ستانسلافسكي على مخاطبة المتلقي عاطفيا ،حيث عمد على تحريك عاطفة المتلقي والتعامل معها ايمانا منه بان هذا التعامل سيعطي الفرصة للمتلقي بالاندماج عاطفيا ووجدانيا مع الاحداث المعروضة من على خشبة المسرح، ويساعده ايضا بالاندماج مع الممثل ومع ما يقدمه من على خشبة المسرح ومن دون تطرف الممثل بالاندماج الكلي مع الشخصية المسرحية، كأن يخلق هذا الاندماج مع الاحداث واقعا حقيقيا وممسرحا فيه شيئا من جمالية التعبير عن الواقع والمتلاحم مع تصميم الاضاءة والديكور الواقعي والبهرجة التي كان يخلقها العرض المسرحي من خلال السينوغرافيا المسرحية. ومن خلال تصميم الازياء للملابس المتطابقة مع المكان والزمان لتعطي هوية الشخصيات وتاريخ واقعية احداث العرض المسرحي اضافة الى الوانها والمتناسقة مع الوان الديكور والاضاءة المسرحية، اضافة الى البعد الطبيعي للشخصية والتي يجب ان يتطابق ويتفق مع الشخصية وهويتها الاجتماعية والثقافية وتجسيد الحالة النفسية وعلى ضوء موقعها وعلاقتها في الاحداث الرئيسية للعرض المسرحي.
ان عملية التقمص والاندماج مع الشخصية المسرحية من قبل الممثل ياتي بشكل متلاحم وصادق مع الايمان بهذا الاندماج والتقمص بحيث يصبح الممثل والشخصية المسرحية واحد، وتنتقل هذه الوحدانية الى المتلقي والذي بدوره يبدأ بعملية التقمص والاندماج مع الممثل ومع الاحداث، انما حذاري من الاندماج الكلي مع الشخصية المسرحية من قبل الممثل لئلا ينتج عن هذا الاندماج مخاطر وكوارث ماساوية مثلما حصل في عدة عروض مسرحية كان ضحيتها بعض الممثلين، وعليه ينصح ان تعطي قياسا للاندماج بنسبة 90 بالمائة والعشرة الاخرى للمراقبة، اي مراقبة الشخصية وبوعي الممثل لئلا ان تخرج الشخصية عن حركتها المرسومة لها. وبهذا تكون لدينا معادلة نسبية مابين الشخصية الرقيبة والمراقبة، وان يسمح للوعي الشخصي ان يراقب وان يسخرها ويحركها بشيىء فيه من الفن والابداع في خلق الشخصية بواقعيتها وتركيبتها السايكولوجية لتؤثر تاثيرا عاطفيا على المتلقي من خلال حاجز الوهم الذي يخلقه هذا الاندماج للممثل لياخذ مداره الفني في عالم مليء بالايمان والصدق بما يقدمه ويمثله من على خشبة المسرح.
الطفل ومقشة التنظيف
(المكناسة ذات الذراع الطويل)
يستحضرنا مثالا جميلا وجميعنا يتذكره في فترة طفولتنا حينما كنا اطفالا يستهوينا وضع ذراع المقشة بين ساقينا متخيلينها فرسا ونحن نمتطيه وننطلق به، او اننا نقود سيارة ونحاكي صوت محركها بفمنا، ويدينا متمثلة بمسك مقود قيادتها (الاستيرن) وننطلق باقدامنا بعد ان ندور سويج المحرك وننطلق بعربتنا الوهمية، مستمتعين بهذه الصورة الوهمية والمشتقة من حياتنا الواقعية والتي نتخيلها بصورتها الحقيقية وكانها هي جوادا او عربة حقيقية، وهذا الاحساس بالصورة المستحضرة تاتي عن طريق ايماننا بهذه الصورة ومقرونة مع الفعل الذي يحرك هذه الصورة الوهمية والغير الحقيقية. جميع هذا كان الممثل الستانسلافسكي يجسده من المشاعر والاحاسيس المختزنة عنده والمستمدة من تجاربه الحياتية اما عن طريق التجربة المكتسبة، او التجربة المختزنة، او التجربة الانية، اي وليدة المشاعر والاحاسيس الانية التي يتحسسها الممثل وهو في اثناء تمارينه الدورية من على خشبة المسرح، وهذا لا يأتي الا من خلال المعايشة الحياتية مع ما حوله من الكائنات البشرية والحيوانية والنباتية وحتى الجمادية، واكتساب منها صور لمشاعرها واحاسيسها متخيلا لو انه كان هو ذات الصفات التي يتميز بها ماذا كان يفعل او ان يتصرف، اي ماذا كانت ردود الفعاله.
لهذا كان يدعو الى عكس الفعل والمشاعر من مسائلة نفسه والاجابة عليها من خلال ما يحسه من المشاعر والاحاسيس ليعكسه كرد فعل من الداخل والى الخارج من خلال تناول الادوار المسرحية ودراستها ومعايشتها لواقعها لتصبح لديه تجربة مكتسبة ومختزنة من الواقع الذي عايشه وتعامل معه ليخلق حالة من الواقع صورة وهمية على خشبة المسرح ليتفاعل المتلقي معها تفاعلا عاطفيا وكأنها احداث حقيقية ، بعكس برشت الذي كان يتعامل مع المتلقي تعاملا عقليا ومنطقيا ومن دون وجود للعاطفة كحالة مرتبطة من قبل المتلقي مع احداث ما يعرض. كان برشت يجعل المتلقي ان يحس بان امامه هي احداث غير حقيقية مبنية من الواقع او من خلال بنات افكارالكاتب وخياله في نسج احداثه، ويحسسك بان الشخص الذي يؤدي هذا الدور هو ممثل وليس شخصية حقيقية، كان يعرض عليك عالما مسرحيا يمثل فيه اشخاص هم ممثلين، ويبعدك عن البهرجة من اجل ان لا يدعك ان تعيش وهم الواقع وكانه حدثا حقيقيا، وهذا ما تميزت به مدرسته ونظريته التي استنتجها من خلال من خلال تجاربه الحياتية والواقعية ضمن مسيرته الفنية والتي خاض تجربتها في المسارح الالمانية والروسية وفي مسرح الجاكانو ومسارح السيرك العالمية.
اذن من هو برشت؟
كثيرا ماتعرفنا على شخصيات اختار لهم ذويهم اختصاص لدراستهم، وقد يكون هذا الاختصاص بعيدا عن ميولهم او رغبتهم في الاختيار، حيث يبعثون ابنائم الى الخارج للاختصاص باحد الاختصاصات العلمية، وعند عودة الابناء يتفاجأ الاهل والاقرباء باختيار ابنائهم اختصاص يختلف عن ميولهم، واقرب مثال على ذالك هو فقيدنا الراحل المخرج الرائد الاستاذ بهنام ميخائيل والذي ذهب وحسب رغبة والده لدراسة اللاهوت ليعود اليهم من امريكا باختصاص المسرح ونظريات التمثيل العملي والنظري، وهذا ما اثار غضب والده الجنرال العسكري ميخائيل القائد العسكري في الجيش العراقي ومن مواليد كركوك في العراق، وبعد عودة الاستاذ بهنام ميخائيل الى الوطن اختير من قبل التربية ليكون استاذا في معهد الفنون الجميلة ومن ثم استاذا في اكاديمية الفنون الجميلة.
ومثل هذا كان برتولد برشت وهو من مواليد 1898 في مدينة اوجوسبورغ، حيث انه درس الطب في ميونخ وهناك تحول اهتمامه الى المسرح من جراء تاثيرات زملاء له حيث عمل في مسرح كارل فالنتين عام 1922 وحصل على جائزة لاول عمل له، وهذا التكريم هو الذي دفعه للتفكير والبحث، اضافة الى استزاد خبرة وثقافة من خلال اطلاعه واحتكاكه بمن سبقوه في العمل المسرحي مما اهله ان يكون مخرجا مسرحيا للعديد من المسرحيات التي نالت اعجاب الجماهير واستحسان النقاد والمعنيين بالفن المسرحي، حيث ساعده اقترانه الثاني بالممثلة هيلينا فايجل سنة 1929 على اكتساب دعم اكثر المحيطين به، وكذلك مواقفها والداعمة لمسيرته كان لها الاثر في تطوير رؤيته ونظرته للمسرح متواصلا ومتزامنا مع الافكار اليسارية الاشتراكية ومعايشة احداث شابتها المقاومة ضد النظام النازي اي نظام هتلر واعوانه وازلامه، مما دعاه هذا الضغط السياسي اللجوء الى الدانمارك، وتلاحقت النكبات والماسي لحياته بعد ان تواجد نظام هتلر في الدانمارك مع قواته هذا الحدث الجديد دعاه للجوء الى سانتا مونيكا في كاليفورنيا، هكذا كان حاله كمثل حال العديد من المهاجرين والهاربين من نظام هتلر المعادي لمعظم المثقفين الذين يميلون الى الافكار اليسارية والاشتراكية، فعمل هتلر على ملاحقتهم وهو يجتاح الاراضي متوغلا في اوربا والسيطرة على مطبوعات الكتاب والادباء المثقفين ومنهم برتولد برشت وحرق مؤلفاتهم واتلافها، مما كانت السبب في ازدياد معانات هؤلاء المثقفين وازدياد المعارضة لسياسة هتلر القمعية واظطهاده للافراد والذين لا ينتمون بجذورهم الى المانيا ولا سيما اليهود الذين اظطهدوا بقساوة من خلال الابادة الجماعية قتلا او حرقا في المحارق المنتشرة في انحاء المانيا.
اما انطباعات برتولد برشت عن المجتمع الامريكي فكانت سوداوية الانطباع مما تمخضت عن انتقادات من خلال مقالاته النقدية، هذا الانسان الذي يرفض الطبقية والتسلط على رقاب المعدمين الكادحين من الطبقة العاملة واستثمار جهودهم بشكل غير منصف ولا سيما في مناجم الذهب وغيرها، عرضه هذا النقد الى الحبس ومن ثم قيدت حريته في النشر والكتابة ووضعت رقابة صارمة على جميع انتاجاته الادبية واتلاف القسم الاكبر منها من قبل السلطات الامريكة مما دعاه هذا الوضع الغير المستقر الى العودة الى المانيا يوم انقسامها الى المانيا الغربية والشرقية، الا انه منع من دخوله الى المانيا الغربية، لذا عاش حياته ضمن هذه الفترة في المانيا الشرقية وعمل على ادارة المسرح الالماني، ثم حاول في تلك الاثناء تشكيل له فرقة مسرحية ومن خلالها شرع بالكتابة ونشر انتاجاته الادبية اضافة الى العمل على اخراجها مسرحيا، حيث اشتهر وشاع صيته ومن خلال الاعمال المسرحية في المانيا و تاثيراته على تطور الحركة المسرحية ورقيها، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية. تابعونا...